المحرمات في الإسلام
تحريم أشياء معينة باسم الدين تقليد قديم قدم الديانات البدائية في العالم. ديانات الرجل البدائي في أفريقيا وأمريكا الجنوبية حرمت أشياء معينة لا تلمسها المرأة الحائض، وكذلك حرّمت أنواع معينة من الحيوانات. وعرب الجاهلية حرّموا الناقة التي تلد عدداً معيّناً من الإناث، لا يركبها أحد ولا يحمل عليها حملاً. وليس هناك منطقاً مفهوماً في تحريم تلك الأشياء ولكنها موروثة من الأدب الشعبي "فولكلور"، الذي توارثه الناس أباً عن جداً.
أول ديانة سماوية حرمت أشياء في المأكل والمشرب هي الديانة اليهودية، ولكن الديانات غير السماوية كذلك حرمت تقريباً نفس الأشياء. فديانة الهنود السيخ حرّمت لحم البقر وأحلت لحم الخنزير، بينما الديانة الهندوسية حرّمت قتل كل الحيوانات لكنها سمحت بأكل اللبن ومشتقاته من جبن وزبده وكذلك أكل السمك.
واليهودية حرمت بعض الحيوانات وأحلت بعضها، فنجد في سفر "لاويون" :
11-3 سمحت لك بأكل الحيوانات مشقوقة الظلف شقاً كاملاً وتقصع الجرة كذلك
11-4 لحيوانات التي تقصع الجرة فقط أو مشقوقة الظلف فقط يُحرّم أكلها. الجمل يقصع الجرة ولكن ظلفه ليس مشقوقاً شقاً كاملاً، ولذلك محرّم
11-6 الأرنب يقصع الجرة ولكن ظلفه ليس مشقوقاً فهو حرام
11-7 الحلوف (الخنزير)، مشقوق الظلف لكنه لا يقصع الجرة، فهو حرام
11-9 من الحيوانات التي تعيش في الماء تأكل كل ما له زعانف وقشور
11-13 هذه الطيور يجب أن تتجنبها : الصقر والعُقاب والحدأة الحمراء والحدأة السوداء وكل أنواع الغراب
11-16 وكذلك تجنب البوم والهدهد والخفاش
11-20 كل الحشرات الطائرة التي تمشي على أربعة يجب عليك ألا تأكلها
11-21 هذه الحشرات ذات الأجنحة والتي تمشي على أربعة يمكنك أكلها : التي لها أرجل بها مفاصل للقفز الجراد والصرصار
11-27 من كل الحيوانات التي تمشي على أربعة، فإن التي تمشي على مخالب لا تأكلها وجاء الإسلام فأحّل وحرم كل هذه الحيوانات والطيور باستثناء الأرنب، وزاد عليها الآتي :
وكذلك "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذُبح على النصب" 1. وكرر نفس الآية في سورة النحل، الآية 115. ولكن في سورة الأنعام الآية 146 يخبرنا الله : "وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون".
فإذا كان الظفر هنا يعنى الظلف، فإن التوراة تقول إذا كان الحيوان مشقوق الظلف شقاً كاملاً ويقصع الجرة فهو حلال عليهم. فإذاً ليس كل ذي ظلف محرمٌ عليهم. ولكن الأهم من ذلك أنه قال حرّم عليهم هذه الأشياء جزاء لهم ببغيهم، أي عقاباً لهم. وماذا حرّم عقاباً لهم وأحل لنا غير الشحم، وكان الأفضل لنا لو حرّم الشحم لأنه مضر بالصحة أكثر من لحم الخنزير، وسوف نناقش هذا لاحقاً.
وأخيراً لخص لنا كل المحرمات حينما قال الله للرسول :
"قل لا أجد في ما أوحيّ إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجسٌ أو فسقاً أهل لغير الله به فمن أضطر غير باغ ولا عادٍ فإن ربك غفور رحيم" 2. فالمحرمات هي الميتة، والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أُهل به لغير الله.
ثم يأتي القرآن من بعد كل هذا ويقول لنا : "اليوم أُحل لكم الطيباتِ وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌ لكم وطعامكم حلٌ لهم" 3. فبعد أن عدد لنا كل المحرمات والمحللات، رجع فقال إن طعام أهل الكتاب (اليهود والنصارى) حِلٌ لنا وطعامنا حِلٌ لهم. ولم يكتف علماء المسلمين بكل هذه المحرمات، فزادوا عليها طريقة الذبح. فإذا ذُبح الحيوان الحلال وقطع القصاب رقبته فوق حنجرة الصوت، صار هذا الحيوان حراماً، فيجب أن تُقطع الرقبة في منتصف حنجرة الصوت. يحتار العقل في فهم الحكمة في تحليل أو تحريم أكل اللحم إذا قُطعت رقبة الحيوان سنتميتراً أعلى أو أوطأ من المكان الذي حدده علماء الإسلام. من الناحية العلمية ليس هناك أي مبرر لهذا، ومن الناحية العقائدية، فالقرآن لم يحدد أين يكون القطع، وإذا كان الرسول قد قطع الرقبة في مكانٍ معيّن، لا يعني هذا أن القطع في غير هذا المكان محرماً. قد يكون القطع في المكان الذي حدده الرسول مستحباً، ولكن هذا لا يجب أن يجعل ما دونه حراماً.
واستفاد تجار اللحوم في الغرب من ذلك وانتشرت أماكن بيع اللحم "الحلال" في كل شوارع مدن الغرب. والمضحك في الأمر أن هؤلاء التجار لا يذبحون الحيوانات بأيديهم وإنما يذبحها لهم نفس مجمع القصابة الذي يذبح بقية الحيوانات للمسيحيين وغيرهم. وندفع نحن أسعاراً إضافية لأن هذا اللحم حلال. وفي هذا الأثناء يقضي علماء المسلمين أعواماً يتجادلون في هل يكون لحم الحيوان حلالاً إذا صُعق بالكهرباء قبل ذبحه؟
ويحتار المسلم في كل هذا الجدل والقرآن قد قال لنا إن طعام أهل الكتاب حلٌ لنا ما دام لم يُهل به لغير الله. وأنا قد زرت مقصب المدينة التي أعيش بها لأطلب أجزاءً معينة من جسم الخراف نستعملها في تدريس كورسات الجراحة، ولم أسمع أو أر قصاباً أهل بالحيوان الذي يذبحه لأي شئ، فهم كانوا منسجمين مع موسيقى "البوب" المنبعثة من مكبرات الصوت حولهم، ومنهمكين في عملهم، لا يتكلمون ولا يهلون لله أو لغيره. فلماذا كل هذا الجدل وتكلفة المسلمين بدفع أسعار إضافية للحم لا يضمنون أنه ذُبح حلالاً؟
منطق التحريم
القرآن ومن قبله التوراة لم يوضحوا لنا لماذا حرّم الله لحم الخنزير. ولكن العلماء المسلمين دفنوا رؤوسهم في أمهات الكتب يبحثون عن سببٍ لهذا التحريم، ولما لم يجدوا سبباً منطقياً، قالوا لنا يجب ألا نناقش أسباب التحريم وعلينا أن نقبلها كأمر من رب العالمين، فقبلنا. ولكن مع تقدم العلم واختراع البرادات، جاء العلماء الحديثين بتفسير مذري : أن عرب الجزيرة لم تكن عندهم برادات تحفظ اللحم، ولحم الخنزير يفسد بعد زمن وجيز نسبة لحر الطقس في الجزيرة وقد يسبب تسمماً للآكلين. وماذا عن لحم الخراف؟
ولا بد أن عرب الجزيرة كانت لديهم وسائل لحفظ اللحم، فقد حكى الطبري في تاريخه عن جماعة من المسلمين أيام غزوة تبوك، وجدوا حيواناً بحرياً كبيراً على شاطئ البحر الأحمر، أكلوا منه لمدة نصف شهر، فقال : "وحدثنا احمد بن عبد الرحمن قال : حدثنا عمى عبد الله بن وهب قال : اخبرنى عمرو بن الحارث ان عمرو بن دينار حدثه انه سمع جابر بن عبد الله يقول : خرجنا فى بعث ونحن ثلاثمائة وعلينا ابو عبيدة بن الجراح، فاصابنا جوع فكنا ناكل الخبط ثلاثة اشهر، فخرجت دابة من البحر يقال لها العنبر، فمكثنا نصف شهر ناكل منها" 4. فهذا التبرير للمنع غير مقنعٍ.
ثم تقدم العلم مرة أخرى وأكتشف العلماء أن الخنزير يحمل في إمعائه دودة تسمى "Tinea solium"، تسبب مرضاً للانسان عبارة عن أكياس صغيرة تنتشر في جسم الأنسان وقد تسبب له مضاعفات. فهلل العلماء المسلمون وتحدثوا عن حكمة الله في تحريم لحم الخنزير، ولكنهم تكتموا على الاكتشاف الثاني الذي أثبت أن بالبقر كذلك دودة اسمها الدودة الشريطية "Tinea saginata"، تستقر في إمعاء آكلي لحم البقر، وتصيبهم بسوء التغذية لأنها تمتص كل الغذاء من إمعائهم. وهناك كذلك دودة أخرى اسمها Echinococcus توجد في البقر والخراف وتصيب الإنسان بزرع كميات كبيرة من الأكياس المائية في عدة أجزاء بالجسم، خاصة الكبد.
فإذاً كل الأسباب التي ساقوها لتبرير تحريم لحم الخنزير تنطبق على لحم البقر والخراف، فلماذا لا نحرمهما"؟
وهذه الأمراض غير معروفة في أوربا وأمريكا حيث تستهلك الناس كميات هائلة من لحم الخنزير، لأن الحلوف يُربى في مزارع نظيفة يشرف عليها أطباء بيطريون، ويعالجون الحلوف إذا وجدوا به المرض. وقد يقول قائل إن الله حرم لحم الخنزير في تلك الأيام لجهل الناس بالقواعد الصحية. ولكن لماذا يُحرم علينا الآن وقد وعينا هذه القواعد الصحية؟ ألا يمكن أن يجتمع العلماء ويزيلوا هذا التحريم الآن؟ والله الذي يعلم الغيب لا بد أنه عرف أن في القرن العشرين سوف يُلم الناس بالقواعد الصحية ولن يسبب لهم وقتها لحم الخنزير أي مرض، فلماذا لم يضع استثناءً في التحريم؟
وتحريم أنواع معينة من الحيوانات ليس فيه أي منطق مقبول، فلماذا يحل لنا أكل الحيوان مشقوق الظلف ويُحرم أكل الحيوان ذي الظلف غير المشقوق. شق الظلف أو عدم شقه مسألة اقتضتها جغرافية المكان الذي نشأ فيه الحيوان وتأقلمه مع البيئة التي يعيش فيها، فالجمل نشأ في أماكن صحراوية كالجزيرة العربية كلها رمال يسهل المشي عليها إذا كان الظلف أو الخف مشقوقاً، فصار خف الجمل مشقوقاً. وكذلك الجمال التي نشأت في مناطق جبلية مثل منطقة "التبت" في أقصى شمال الهند، فنسبةً لوعورة الأرض، يسهل على الجمل السير فيها إذا كان خفه مشقوقاً. وكذلك الماعز والأغنام لها ظلف مشقوق لأنها تعيش في مناطق جبلية. بينما الحمار والحصان وما شابههما، نشأ في مناطق "سافنا" أي بين الصحراء وبين الغابات، حيث الأرض أكثر صلابةً من الرمال، ولذلك لا يحتاج الحمار إلى ظلف مشقوق. وشق الظلف أو عدمه لا يؤثر في نوعية اللحم أو في طهارته أو عدمها، وليس هناك أي منطق في هذا التحريم. ونفس الشي ينسحب على الحيوانات التي تقصع الجرة ويحل لنا أن نأكلها، والتي لا تقصعها وتُحرّم علينا.
الربا
لما كان عرب الجاهلية أغلبهم رعاة يعتمدون على بيع الحملان من نعاجهم بعد موسم التخليف، كانوا يقترضون ما يحتاجون إليه من المال أثناء العام من المرابين الذين كاوا يقرضونهم المال بفائذةٍ قد تكون مرهقة، حتى يبيعوا حملانهم ويسددوا دينهم. وفي المدينة حيث كان أكبر تجمع لليهود، كان بنو قريظة وبنو المصطلق يسيطرون على التجارة والزراعة والصياغة، وكانوا يقرضون الأوس والخزج بالفائدة. أما في مكة حيث كانت قريش تسيطر على التجارة، فكان أغلب المرابين منها.
واستقر التعامل بالربا في مجتمع الجزيرة باعتباره من الدخول الريعية التي تضخ دون بذل أي مجهود مثله مثل عرق العبيد وأفخاذ الإماء اللائي دأبوا على تشغيلهن في الدعارة. ومن بين اكبر المرابين في بداية الإسلام كان : العباس بن عبد المطلب الجد الأعلى للعباسيين ، وخالد بن الوليد بن المغيرة. قال السُدي : نزلت آية الربا في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية 5.
وفي الفترة التي سبقت ظهور الإسلام مثّل الوليد بن المغيرة، أبو خالد بن الوليد، دورَ كبير المرابين وهو شخصية بارزة بين ملأ قريش تمتع بثراء عريض وشهد القرآن بغناه الطاغي "ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع إن أزيد" (المدثر/11 وما بعدها). وقال ابن قتيبة "وبنين شهودا" هو الوليد بن المغيرة، كان له عشرة بنين لا يغيبون عنه في تجارة ولا عمل 6. وإذ انه من المرازبة ومن صناديد قريش فهو واحد من القلائل الذين يسنون السنن التي يقتدي بها القبيل مثل عبد المطلب بن هاشم – مع الفارق الشاسع بين الرجلين. وإذ أن كان جزاراً، فقد استن قطع يد السارق حتى يردع اللصوص من الاقتراب من ماله 7 وطوال فترة الرسول بمكة (ثلاثة عشر عاماً) نزلت آية واحدة تخبر الناس أن مال الربا لا يربو عند الله : "وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون" 8. وطبعاً لم ينتبه العباس ولا المغيرة لهذه الآية واستمر الربا جارياً.
وعندما هاجر الرسول إلى المدينة حاول أن يكسب يهود المدينة لدينه الجديد، فصلى إلى بيت المقدس ولم يذكر شيئاً عن الربا، إذ كان اليهود من أكبر المرابين في المدينة ويعتمد اقتصادهم على الربا. ولما يئس من جذب اليهود إلى الإسلام ، نزلت عليه سورة البقرة في السنة الثانية هجرية، وهي أول سورة نزلت بالمدينة، غيّر بها القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وبدأ بها محاربة الربا، حتى يضرب اليهود في أكثر مكان يوجعهم، وهو اقتصادهم وتجارتهم، فنزلت : "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرّم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون…" 9.
فأول ما نزلت هذه الآية، قال النبي : "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب". ومع أن العباس وخالد بن الوليد كانا شريكين في الربا، إلا أن الرسول وضع، أي عفا عن، ربا العباس أولاً ولم يذكر خالد.
وكانت ثقيف قد صالحت رسول الله على أن ما كان لهم من ربا على الناس فهو لهم، وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع. فلما كان الفتح، استعمل رسول الله على مكة عتاب بن أسيد، وكانت بنو عمرو بن عُمير بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة، وكانت بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مالٌ كثير، فأتاهم بنو عمرو بن عمير يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، فرفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد، فكتب عتاب بن أسيد إلى رسول الله، فنزلت الآية 278 من سورة البقرة : "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين. فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله" 10.
فهذا تحذير واضح بترك الربا، وإلا سيحاربهم الله ورسوله. ويبدو أن هذا لم يكن كافياً فنزلت الآية 160 من سورة النساء : "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيباتٍ أُحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نُهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل واعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً".
وجاءت الخطوة الأخيرة في تحريم الربا في سورة آل عمران، الآية 130 : "ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون". وهنا أصبح التحريم نهائياً. ولكن قد يسأل سائلٌ : بعد أن حرّم الله الربا ووضع الرسول ربا الجاهلية، لماذا صالح ثقيف على أن الربا الذي لهم على الناس يحق لهم أن يأخذوه، والربا الذي عليهم من الناس يصبح موضوعاً. فلماذا هذا التمييز بين الناس؟ إما أن الربا حرام ويوضع كله، أو أنه غير حرام فيجوز لثقيف أن يأخذوا ما لهم على الناس من ربا.
وعلى كلٍ، لم يقتنع المسلمون الأوائل بتحريم الربا فأستعملوا عدة حيل للالتفاف حول تحريمه، منها :
1- شراء العبيد واستخدامهم في التجارة والمهن المختلفة وفرض نوع من الضريبة عليهم يؤدونها لهم كل يوم 11
2- البيع المؤجل. حيث يقرض أحدهم بضائع إلى الناس بسعر أعلى من سعر السوق. وقد أطلقت عائشة على هذا البيع المؤجل اسم "الربا العاجل"
3- إعطاء الأموال إلى التجار في سبيل استثمارها ثم تقسيم الربح بين المعطي والمعطى إليه بنسبة معينة لصالح الدائن 12
وبهذه الوسائل وغيرها استطاع أغنياء المؤمنين أن يجمعوا من الثروات ما لم يكن يحلم به أغنياء المشركين من قبل ولا يختلف اثنان أن الربا الفاحش (أضعافاً مضاعفة) يضر بالفقراء في أي مجتمع لأنه يستغل حاجتهم للمال فيقرضهم إياه بربح خيالي. ولكن الربح المعقول جزء من التجارة التي يبحث أصحابها دائماً عن الربح، وإلا إذا انعدم الربح انعدمت التجارة، فليس هناك تاجر أو بنك يمكن أن يُقرض الدائنين مالاً دون أن يأخذ منهم ربحاً.
ولما كان الاقتصاد الإسلامي في الدولة الأموية والدولة العباسية معتمداً على أنفال الفتوحات من الأموال التي صادرها المسلمون من الأمم المهزومة، وكذلك بتوفير الأيدي العاملة المجانية من العبيد والإماء الذين أسروهم من الحروب، لم يجد المسلمون داعي للتعامل بالربا. ولكن مع انهيار الدولة العباسية وقيام الخلافة العثمانية التي استعمرت شرق أوربا والبلاد العربية، ابتدأ الاقتصاد الإسلامي بالتدهور وحاولت الدولة العثمانية إنعاشه بفرض ضرائب مرهقة على الأمم المغلوبة على أمرها. ولما لم يسد هذا الإجراء العجز في الاقتصاد الإسلامي، أخذت البيوت التجارية تتعامل بالربا. وبسقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى واستقلال البلاد العربية، أجبر الفقر الذي عمَ العالم إثر الحرب الحكومات العربية الجديدة أن تقترض من البنوك الأجنبية بالربا. وبالطبع حذا التجار العرب حذو حكوماتهم وتعاملوا بالربا.
وبعد تدفق البترول في الخليج وتكديس الأموال بالدول الخليجية ظهرت موضة البنوك الإسلامية التي لا تتعامل بالربا. وانتشرت هذه البنوك خارج دول الخليج، فكان منها :
بنك فيصل الإسلامي المصري
البنك الإسلامي الأردني
البنك السوداني الإسلامي
البنك الإسلامي لغرب السودان
بنك فيصل الإسلامي السوداني
بنك التنمية التعاوني
الإسلامي السوداني
المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية (ممول من الأمارات)13
ومن الغريب أن تظهر أربعة من هذه البنوك بالسودان وهو من أفقر الدول الإسلامية. وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أن وراء هذه البنوك أهدافاً غير الربح والخسارة. وفي واقع الأمر ما هذه البنوك إلا حيلة قانونية تحايل بها أصحاب البنوك على الله، وظنوا أنهم خادعين الناس بهذا الابتكار الجديد. والحيل التي استعملها رجال الشرع كثيرة سنتعرض لها في حينها.
هذه البنوك تدعي أنها لا تأخذ ربحاً من المقترضين منها ولا تعطي أصحاب الحسابات الذين يودعون أموالهم بالبنك أي ربح محدد مسبقاً إنما يتاجر البنك بهذه الأموال ثم يقسّم الربح على المستثمرين. وهذا كله كذبٌ على الناس. فالكاتب قد ذهب إلى البنك الأهلي السعودي ليقترض مبلغ عشرة آلاف ريال، وأخذ معه أحد المواطنين السعوديين كضامن، واجتمعا مع مدير البنك الذي بدا مسروراً بتسليف الكاتب المبلغ المطلوب. وبعد التوقيع على الأوراق اللازمة سلّم مدير البنك الكاتب مبلغ تسعة آلاف ونصف الألف ريال، مع أن الكاتب أستلف عشرة آلاف. ولما سأل الكاتب المدير ماذا حدث للخمسمائة ريال الباقية، كان الجواب إنها عمولة البنك.
فالبنك أقرض الكاتب عشرة آلاف ريال بربح خمسة بالمائة وخصمها مقدماً ليستثمرها في معاملات أخرى، وسماها عمولة بدل ربح، وبالتالي يستطيع مدير البنك أن يقول أنه لا يتعامل بالربا. وفي واقع الأمر فإن هذا ربح مركّب أي ربا فاحش لأنه خصم كل الربح مقدماً واستثمره في معاملات أخرى، بينما البنوك الأوربية تخصم الربح شهرياً على مدى المدة التي يسدد بها الدائن دينه.
ومن الحيل الأخرى التي تستعملها هذه البنوك عند توزيع الأرباح على المستثمرين، يخصم البنك عشرة بالمائة من الأرباح لتخصص لحساب الاحتياطي الاختياري، وعشرة بالمائة تُخصم لحساب الاحتياطي الإجباري، وتُعتبر هذه العشرين بالمائة بمثابة أجر البنك على أعماله التي يقوم بها لاستثمار الودائع.
وهناك حيلة أخرى كذلك في حسابات الودائع المربوطة لأقل من سنة. فالبنك يتعاقد مع المستثمر على إيداع ماله لستة أشهر مثلاً، وعند نهاية الستة أشهر يستطيع المستثمر أن يأخذ رأس ماله لكن لا يدفع البنك له الربح إلا بعد نهاية السنة، ويستثمر البنك هذا الربح لكنه يعطي المستثمر الربح الذي تقرر عند نهاية الست أشهر.
الإسلاميون أدخلوا كلمة "الإسلامي" على كل شئ وحسبوا أنهم يخدعون الناس بذلك. فبنوكهم الإسلامية تعمل نفس عمل البنوك التجارية العالمية، هم غيروا الأسماء فقط دون تغيير المحتوى. وقد كتب المستشار القانوني المصري، محمد سعيد العشماوي : "أما الاقتصاد الإسلامي فقد كان يعني التعامل مع شركات توظيف الأموال والمصارف الإسلامية وحدها دون غيرها، علي اعتبار أن المصارف الأخرى مصارف أي بنوك ربوية. لكن ما يسمي بالمصارف الإسلامية كان يتعامل علي نفس الأسس وبذات النظم التي تتعامل بها المصارف الأخرى مع تغيير الأسماء، فبدلاً من الفائدة يقال عنه عائد، وعوضاً عن القرض يقال مرابحة، وهكذا. وفي سبيل جذب العملاء، بهذا الأسلوب الساذج، فإن بعض المصارف الأجنبية افتتحت فروعاً أو أقساماً تتعامل علي النظام الإسلامي، أي بتغيير الأسماء مع بقاء المسميات علي حالها. وفي كتابي جوهر الإسلام بينت هذا الواقع الذي يقوم علي التحايل دون تغيير الحقائق، وذكرت أن الاقتصاد السياسي علم لم ينشأ إلا بعد الثورة الصناعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا، وأنه قام علي أفكار آدم سميث وريكاردو وغيرهما، أما قبل ذلك فلم يكن يوجد اقتصاد بالمعني الحقيقي للكلمة وإنما كانت هناك تدابير مالية ليس إلا" 14
هل تستطيع البنوك الإسلامية أن تعمل في مجال التجارة العالمية، مثلها مثل البنوك العالمية الأخرى، بدون أن تتعامل بالربا؟ في اعتقادي أن هذا ليس ممكناً لأن هذه البنوك لا تستطيع أن تتاجر فعلياً في السكر أو القمح أو ما شابه ذلك، وتبيعه للمواطنين كما يفعل التاجر. فهي أما أن تسلّف المزارع أو التاجر مبلغاً من المال لشراء ما يحتاج ليزرع أرضه ويتفق معه البنك مقدماً على أنه سوف يشتري منه المحصول بسعر معيّن يحدده البنك مسبقاً، وهذا نوع من الربا أو القمار المحرم، أو يسلّفه المبلغ ويخصم منه الربح مقدماً كعمولة، وهو كذلك ربا. ويستطيع البنك الإسلامي أن يقرض أمواله بنكاً عالمياً يتاجر بها بالإنابة عن البنك الإسلامي، على أن يدفع له نسبة معينة من الربح، ولا يدري البنك الإسلامي في أي شئ استعمل البنك العالمي نقوده، فقد يكون البنك العالمي باع واشترى كل المحرمات بنقود البنك الإسلامي حتى يستطيع أن يعطيه ربحاً على أمواله المستثمرة. وقد رأينا ما حدث للبنك الإسلامي العالمي للاستثمار والقروض الذي أُسس في الأمارات وكانت فروعه في أمريكا وانكلترا منغمسة في كل عمل مشين حتى انهار البنك وعليه ديون بالملايين سددها حكام الأمارات.
وقد اتضح أخيراً للفقهاء الإسلاميين أن البنوك لا بد لها أن تتعامل بالفائدة لكي تربح فأصدر الجامع الأزهر أخيراً فتوى بتحليل المعاملة بالفائدة للبنوك، فكتب المستشار القانوني المصري محمد سعيد العشماوي" فور أن صدر الحكم الشهير، من محكمة الاستئناف العليا، بتاريخ 16 يناير ،1986 بأن الفائدة القانونية ليست هي الربا المحظور في القرآن، وهو الرأي الذي يتبناه الأزهر أخيراً فأصدر فتوى بما تضمنه، ثارت ثائرة الإسلام السياسي علي اعتبار أن الحكم يقوض جناحهم الاقتصادي، كما انقلب عليّ الكثيرون من زملائي رجال القضاء، لأن الحكم كشف حقيقتهم، ومنع عنهم العوائد التي كانوا يستفيدونها من الإيداعات وكشوف البركة لدي شركات توظيف الأموال. لقد صار حكمي المجرد العادل، الذي أخذ به الأزهر حرفياً بعد 16 عاماً، سبباً في عداوة شديدة يحملها لي من يفترض فيهم العدل والحياد والتجرد، وكانوا يدعون أني أحل الربا، دون أن يتساءلوا أولاً وابتداءً : ما هو الربا المحظور في القرآن؟ وبعد وضع تعريف له وتوصيف لأحواله، يشرعون في تطبيق المعايير الفقهية والأسانيد العقلية علي موضوع البحث أو نقطة الاجتهاد" 15.
والشخص الذي يبحث عن أجوبة قاطعة عن الربا من رجال الدين المسلمين غالباً ما ينتهي بإجابات متضاربة، فمثلاً سأل شخص من نيجريا مجمع الفقه الإسلامي بالقاهرة عن حكم الإسلام في بنك تعاوني في نيجريا يعطي أعضاءه نسبة قليلة من الأرباح في مقابل أن يدين الأعضاء المحتاجين مبالغاً من المال بأقل سعر من الفائدة حتى يستطيعوا بناء منازل لهم أو أشياء أخرى ضرورية. فكان رد الفقهاء بفتوى رقم 61 هو : "لم يجز في نطاق أحكام الإسلام في القروض أن يحصل الصندوق على فائدة من المقترض مهما كان قدرها حتى لا يدخل تعامل صندوق الاتحاد مع أعضائه في نطاق الربا الذي حرمه الإسلام، وإنما لإدارة هذا الاتحاد أن تحصل من المقترض على مبلغ ثابت وقت القرض في نظير أجور القائمين على إدارة الاتحاد ورصد المبلغ في حساباته باعتباره أجرة كتابة لا فائدة للقرض ذلك لأن فقهاء المسلمين لم يختلفوا على جواز أخذ الأجرة على كتابة صك الدين وأن الأجرة في هذه الحال على المدين". وواضح أن هذا لا يعدو أن يكون ربا باسم مخالف، فقد يسموه عمولة أو أجرة كتابة، لكنه في النهاية أخذ ربح من المستدين.
وسأل شخص آخر نفس السؤال بصيغة مختلفة، فقال: هل يجوز أخذ زيادة على الديون من المستقرضين على أن تكون كالنفقات الإدارية للمؤسسة التعاونية اللا ربوية؟ وكانت الإجابة هذه المرة من مجمع الفقه الإسلامي بالهند، قرار رقم 3، وهي تختلف اختلافاً جذرياً مع فتوة علماء القاهرة : "لا يجوز قطعاً أخذ زيادة على الديون من المستقرضين بأي طريق كان وهذا المبلغ الزائد على الديون يكون الربا في الشرع فلا يجوز أي نوع من المبلغ الزائد على الديون سواء أكان لمنفعة الشخص أم المؤسسة أم لغرض الإنفاق على مشاريع خيرية، كما أن الأموال التي تستقرضها المؤسسات الخيرية من المسلمين لا يجوز أن تودع في fixed deposit ويؤخذ عليها الربا، فإن ذلك يكون حراماً. أما السؤال عن النفقات الإدارية لهذه المؤسسة فيرى هذا الملتقى من المناسب اتخاذ الأمور التالية بهذا الصدد :
إن مثل هذه المؤسسات حاجة عامة، لازمة للمسلمين فيتولى بعض أثرياء المسلمين مسئوليتها لابتغاء مرضاة الله تعالى فقط ويتحملون جميع النفقات اللازمة لها، وإذا نالت هذه المؤسسات ثقة في المسلمين بأنها تلعب دوراً كبيراً في تعاون المسلمين المالي وإنقاذهم من المعاملات الربوية وتدار حسب توجيهات العلماء وآرائهم فالأمل القوي أن المسلمين الأثرياء يبادرون إلى القيام بنفقاتها الإدارية بل بالسعي في تقدم المؤسسات وازدهارها". 16
هل يعيش هؤلاء العلماء في عالم الواقع؟ أين هؤلاء المسلمين الأثرياء الذين يتحملون نفقات مثل هذه المؤسسات من جيبهم الخاص إبتغاء مرضاة الله. أصلاً لو أرادوا مرضاة الله لما صاروا أغنياء لأن الإسلام يحرّم الكنز، والغنى هو الكنز، كما عرفه الصحابة من أمثال أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي. وإذا كان لهذه المؤسسات أن تنشأ فلا بد لها من أخذ كمية من المال الإضافي من المقترضين للصرف على احتياجات تشغيل هذه المؤسسات. والإشكال في الإسلام أنه قال لنا إن الله حلل التجارة وحرم الربا، لكنه لم يوضح لنا ماهي التجارة وما هو الربا.، وبالتالي وجد علماء المسلمين أنفسهم في مياه غير مرسّمة عندما تقدم الاقتصاد العالمي وفُتحت أبواب لم تكن معروفة في أيام النبي. ولذلك جاء التخبط في الفتاوى لجهل هؤلاء العلماء بالاقتصاد الحديث.
فقد سأل سائلٌ مجمع الفقه الإسلامي عن التأمين التجاري، فجاء ردهم في دورتهم الأولى، في القرار الخامس، كما يلي : "بعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي بالاجماع عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا، تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه سواء كان على النفس او البضائع أو غير ذلك. لأان عقد التأمين التجاري من عقود المعارضات المالية الإحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش للأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ، فقد يدفع قسطاً أو قسطين ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المُؤمّن، وقد لا تقع الكارثة أصلاً فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئاً. وقد ورد الحديث الصحيح عن النبي (ص) "النهي عن بيع القرر". وعقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسيئة فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أكثر مما دفعه من النقود لها، فهو ربا فضل، والمؤمّن يدفع للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نسأ، وكلاهما حرام".
وبهذه الفتوى حكم العلماء على كل اقتصاد الدول الغربية بالدمار لأن التجارة ونقل البضائع براً و بحراً وجواً وبيع الزيت الخام الذي يعتمد على مضاربة الشاري على ماذا سيكون السعر بعد ستة أشهر من الآن، كلها تعتمد على التأمين وإعادة التأمين. وهناك بنوك مثل "لويد" بلندن، تعتمد إعتماداً كبيراً على إعادة التأمين من البنوك الأخرى التي تأمن على شاخنات الزيت الخام التي تحمل زيتاً بملايين الجنيهات في الرحلة الواحدة، وسيكون غرقها كارثة تنهي البنك المؤمن عليها إذا لم يُعد هذا البنك التأمين مع بنك أكبر منه مثل بنك لويد. فإذا حرمّنا مثل هذه المعاملات إنهار الاقتصاد العالمي.
أما التأمين على الحياة فيُحرّمه عدد كبير من العلماء لأنه يحتوي على الغرر. والغرر هو عدم التأكد من تحقق الخدمة المقدمة مقابل الثمن المدفوع. ولما سأل أحد المسلمين مجمع الفقه الإسلامي، كان ردهم في الفتوى رقم 65 : "التأمين على الحياة فيه خلاف شديد وهو معروض على المجامع الفقهية وإذا خلا من الربا بعدم استرجاع الأقساط بفوائدها إن عاش بعد السن المؤمن عليها، وكانت هناك حاجة ماسة إليه كما في المهن ذات الخطورة، وخُفف الغرر بأن يُربط التعويض بعدم مجاوزة الدية فلا يبعد القول بجوازه" 17.
وهنا يظهر تخبط العلماء: أولا، ليس هناك أي منطق في قولهم "إذا خُفف الغرر بأن يربط التعويض بعدم مجاوزة الدية". فالغررإما أنه حرام، وبالتالي سيكون حراماً إذا زدنا الغرر أو قلنناه، قياساً بقولهم في الخمر: ما أسكر كثيره فقليله حرام، أو أنه غير حرام وبالتالي لا نحدد قيمته. وثانياً : ما هي قيمة الدية؟ فالدية حتى عهد قريب، كانت خمسين ألف ريال سعودي، زادت مؤخراً إلى مائة ألف ريال بينما استمرت في حدود الخمسين ألف في دول الخليج الأخرى، ةهذا سوف يجعل كل أهل الخليج يؤمنون على حياتهم في السعودية، على حساب شركات التأمين في الدول الأخرى. ثالثاً: ماذا نفعل مع المسيحي الذي يعيش في بلد مسلم ويريد أن يؤمن على حياته؟ هل نؤمنها على قيمة دية المسلم، وهو غير مسلم، أم نرفض تأمينه لأن الغير مسلم ليست لدمه دية في الإسلام؟
والغرر لا يمكن تفاديه في حياتنا اليومية، فإذا أخذنا مثلاً الموظفين بالشركات أو الحكومة، فالموظف يدفع للشركة 5% من راتبه الشهري على أن تستثمره الشركة وتدفع له راتباً شهرياً بعد تقاعده من الخدمة، أو تدفع راتباً لزوجته وأطفاله بعد موته. وتعتمد كمية هذا الراتب بعد المعاش على عد سنين خدمة الموظف وعلى كمية آخر راتب له بالخدمة. وكل هذه المفردات غير معروفة عندما يبدأ الموظف عمله بالشركة، فلا أحد يعرف كم سنة سوف يعمل بالشركة قبل أن يموت، ولا يعرف أحد كم سيكون آخر راتب له بالخدمة. فهذا كله غرر. فهل نُحرّم راتب التقاعد للموظفين، بما فيهم الشيوخ الأفاضل؟
الزكاة
ويحملنا الحديث عن الربا والاقتصاد الإسلامي إلى الحديث عن مصادر دخل الدولة الإسلامية والزكاة. فالدولة الحديثة تحتاج إلى دخل ثابت تستطيع أن تقدرعلى أساسه كم سيكون دخلها في العام حتى تتمكن من وضع موازنة في أول العام تصرف منها على الجيش والشرطة والتعليم والصحة والبند الإجتماعي الذي يشرف على العاطلين عن العمل والمعوقين وما إلى ذلك.
في معظم البلاد الأوربية تعتمد الحكومة على الضريبة كمصدر الدخل الرئيسي، وإذا كانت الدولة تمتلك حقول نفط، مثل النرويج، يُضاف هذا الدخل على دخل الضريبة، وقد تحتاج الدولة أن تقترض من البنك الدولى أو من البنوك لتسديد العجز في موازنتها. والضريبة على الدخل الفردي في دول الإتحاد الأوربي تبدأ بعشرين في المائة إلى سقف معيّن من الدخل، ترتفع بعده إلى أربعين بالمائة أو أكثر. بالإضافة إلى ذلك تفرض الحكومات ضريبة قيمة إضافية على المشتريات تصل إلى سبعة عشر بالمائة على كل شئ يشتريه المستهلك، وتتحكم الحكومات في أسعار البنزين والمشروبات الكحولية والتبغ وتفرض عليها ضريبة قد تصل إلى مائتين بالمئة. ثم هناك ضريبة على الواردات التي تدخل القطر. الحكومات إذا احتاجت لدخل إضافي تصدر سندات مالية تبيعها للمواطنين بضمان إرجاع المبلغ مع نسبة مضمونة من الربح بعد عدة سنوات. وهذه السندات الحكومية تتعامل بها كل حكومات الغرب وتدر عليها مبالغ طائلة.
فإذا قارنا هذا بدخل دولة إسلامية غير خليجية، لا تملك نفطاً، فسوف يكون كل دخلها من الزكاة وضريبة الواردات وبيع المحاصيل التي تستخرج من الأراضي التي تمتلكها الدولة وبيع منتجات المصانع التي تمتلكها الدولة كذلك، ويعني هذا أن تمتلك الدولة كل سبل الإنتاج، وهذا عكس النظريات الاقتصادية الحديثة.
والزكاة مصطلح إسلامي جاء متأخراً في التشريع الإسلامي، كحل وسط فرضه أغنياء المسلمين على الإسلام. ففي بداية الإسلام عندما كان المسلمون، وخاصة المهاجرون، فقراء، فرض الإسلام على القلة الغنية عدم كنز الأموال : "يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" ( التوبة 34). وأعتبروا أن الكنز هو ما زاد على حاجة الفرد وأسرته، وحددوا مبلغ أربعة آلاف درهم كحد أعلى للمدخر يصير كل ما زاد عنه كنزاً. ويقال كان الرجل إذا كان تاجراً يمسك لنفسه ألف درهم ليتمون بها ويتجر بها ويتصدق بالباقي بعد أن يقوّمه ذهباً. وإن كان من أهل الضياع والزراعة كان يمسك لنفسه وعياله ما يكفيه لسنته القابلة ويتصدق بالباقي. وإن كان من جملة الصناع يمسك لنفسه قوت ليلة ويتصدق بالباقي ولا يدخر بعد ذلك شيئاً. وبقوا على ذلك زماناً وشق عليهم ذلك ، وخاصة الأغنياء منهم. ولما أحس الرسول بتذمرهم نزلت آية الزكاة : "وخذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكنٌ لهم والله سميع عليم" (التوبة/103). ونزلت هذه الآية في السنة التاسعة الهجرية بعد غزوة تبوك.
وبسرعة البرق أمسك الأغنياء بها وقالوا إن هذه الآية نسخت آية الكنز، ولذك أصبح حلاً لهم أن يكنزوا أموالهم ما داموا قد دفعوا زكاتها. والزكاة المفروضة ما كانت لترهق كاهلهم إذ أنها نسبة ضئيلة من أموالهم إذا ما قارناها بالضرائب الحديثة. وليس كل شئ عندهم كان خاضعاً للزكاة، فالزكاة في الإسلام تجب في أربعة أشياء فقط :
1- السائمة، وتعني الأنعام من جمال وغنم ومواشي
2- الخارج من الأرض كالتمر والزراعة
3- الأثمان أي النقود والذهب والفضة
4- عروض التجارة
فالباب الأول دخله للدولة ضئيل إذ أن زكاته بسيطة. فمثلاً في الجمال تُدفع شاة واحدة عن 24 جملاً. وإذا كان الشخص يملك 120 جملاً فزكاتها حقتان، يعني ناقتان صغيرتان. والزراعة دخلها كذلك بسيط إذ أن الزكاة في ما يُسقى بالمطر العُشر، وفيما يُسقى بالعيون أو بجلب الماء من النهر، نصف العشر أي خمسة بالمائة.
الزكاة في النقود والذهب والفضة ربع العشر أي اثنين ونصف بالمائة. ولا زكاة في حُلى المرأة إذا لم يزد عن القدر المعتاد للبس المرأة بين مثيلاتها في مستواها الاجتماعي، ولذا يستطيع الشخص أن يشتري بما يبقي من دخله حُلى لزوجته ليتفادى الزكاة.
أغلب الدخل للدولة ربما يأتي من عروض التجارة إذ أن الزكاة فيها تتكون من رأس المال والربح كذلك ولا يشترط فيها مرور الحول على الربح، فحَوْل الربح هو حول الأصل أي رأس المال. ولكن الزكاة نفسها اثنين ونصف بالمائة، هذا إذا كانت الدولة تملك إمكانات حديثة تمكنها من حصر دخول التجار حتى تستطيع أن تجمع منهم الزكاة الواجبة عليهم.
أضف إلى ذلك أن الزكاة تجب فقط على المسلم، ولا تجب على الكافر لأن الكفار لا يطهرون بالزكاة كالمسلم، ولا ينمو مالهم بالزكاة مثل مال المسلم. فبلد كمصر خمس أهلها من الأقباط، لا تجب عليهم الزكاة، إنما تجب عليهم الجزية. وليس هناك ما يفرض على المسلم دفع الزكاة للدولة، ففي خلافة أبي بكر وعمر بن الخطاب كانت الزكاة تدفع لبيت المال ويصرفها الخليفة في أوجه صرفها الشرعية. ولكن في خلافة عثمان بن عفان، قرر الخليفة أن يدفع الأغنياء صدقتهم إلى الفقراء مباشرة، وبهذا فتح للأغنياء باب التهرب من دفع الزكاة.
والمسلم يمكنه دفع الزكاة إلى الفقراء من أهله وأقاربه. فعن أنس ابن مالك أنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه ببرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية : "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" قام أبو طلحة إلى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول : "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، وإن أحب أموالي إليّ ببرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله (ص) "بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين". فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. رواه البخاري 1416. والصدقة والزكاة في الإسلام شئ واحد.
وأوجه صرف الزكاة محددة بالنص ولا يستطيع الحاكم أن يصرفها في غير هذه الأوجه، وهي : "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السيل فريضة من الله والله عليم حكيم" (التوبة/60). والخليفة عمر بن الخطاب كان قد أوقف الدفع للمؤلفة قلوبهم لأن الإسلام أصبح قوياً في أيامه وما كان يحتاج إلى أن يؤلف قلوب المشركين ليؤمنوا. و"في الرقاب" هم العبيد المملوكين الذين يودون أن يشتروا حريتهم من المالك، وكان بيت المال يساعدهم في دفع ثمن حريتهم. وبما أن الرق أصبح في حكم المعدوم، رغم أن الدول الإسلامية لم تحرمه، فقد قل عدد الذين تُُصرف عليهم الزكاة من ثمانية أصناف إلى ستة.. وهناك اتفاق عام على عدم إعطاء الفقير الغير مسلم منها، رغم أن عمر أعطى منها بعض أهل الذمة. وتجار أهل الذمة يدفعون العشر على صادراتهم ووارداتهم، وكان يجب أن يخصص جزء من هذه الضريبة لفقرائهم لكن الدولة الإسلامية كانت تأخذها لنفسها.
وبما أن الإسلام أباح دفع الزكاة للفقراء مباشرةً، فقد خلق هذا إشكالاً لبعض الدول المسلمة، ففي اليمن مثلاً يدفع الناس الزكاة إلى أقاربهم وتحاول الدولة أن تجمعها منهم، وقد قال بعض السياسيين إن هذا قد يقود إلى حرب الردة، كما فعل الخليفة أبو بكر عندما امتنعت بعض القبائل من دفع الزكاة له، مما أضطر رئيس الدولة، علي عبد الله صالح، أن يقول في خطاب موجه إلى الأمة والعلماء والقادة السياسيين، خلال مأدبة إفطار كبرى أقامها في القصر الجمهوري في صنعاء "إن الزكاة ركن من أركان الإسلام وهي تدفع للدولة صاحبة الولاية العامة إلا أن البعض يفتي أن يتصدق بها على من وجبت عليهم الزكاة". وأوضح "من أراد أن يتصدق فليتصدق من ماله كيف ما يشاء"، إلا أنه شدد على أن الزكاة "هي فريضة واجبة وهي طهارة تدفع للخزينة العامة لان الدولة هي التي توجد المنافع العامة كالطرقات والمدارس والجوامع والجامعات ومعالجة قضايا المعدمين والفقراء والمحتاجين من خلال الضمان الاجتماعي". وبيّن صالح "أن الدولة تدفع للضمان الاجتماعي مبلغ يفوق الستة عشر مليار ريال في حين لا تتعدى عائدات الزكاة المليارين ريال". 18
فكيف تستطيع دولة حديثة أن تصرف على كل أوجه الصرف المعروفة في الدول من جيش وشرطة وتعليم ومستشفيات وطرق ووسائل مواصلات زيادة على البند الاجتماعي الذي يصرف على العاطلين عن العمل والمعوقين وغيرهم، من الزكاة التي لا تتعدى اثنين ونصف بالمائة من دخل الفرد وخمسة إلى عشرة بالمائة في الزراعة وعشرة بالمائة في التجارة، بينما الدول الغربية التي تتقاضى ضريبة دخل تفوق الأربعين بالمائة تجد صعوبة في الصرف على كل البنود التي تحتاج إلى صرف الدولة عليها؟
التبني في الإسلام
أي مجتمع، قديم أو حديث، به أطفال مات عائلهم، أو كانوا أطفال سفاح أرادت الأمهات التخلص منهم منعاً للفضيحة، خاصة في المجتمعات القديمة المحافظة. وحتى لا يموت هولاء الأطفال من الجوع، اخترعت المجتمعات القديمة نظام التبني، حيث يتبنى شخص الطفل الصغير ويربيه على أساس أنه طفله البيولوجي. وكان هذا النظام معروفاً لعرب ما قبل الإسلام.
وكان هناك طفل صغير يدعى زيد بن حارثة خرجت به أمه على دابة تريد زيارة أهلها فهجم عليها جماعة من الأعراب أخذوا منها ابنها الصغير وباعوه في سوق عكاظ، فاشتراه ابن أخي خديجة بنت خويلد وأهداه إلى عمته، التي أهدته بدورها إلى محمد بن عبد الله فتبناه محمد وصار يُعرف بزيد بن محمد. ودخل زيد في الإسلام وهو صغبر، ولما كبر زوجه محمد من بنت خالته زينب بنت جحش، وكانت من أجمل نساء العرب. وفي بادى الأمر رفضت زينب أن تتزوج زيد على أساس أنه أقل مرتبةً منها، وإن كان يُعرف بزيد بن محمد. فأنزل الله آيةً على محمد : "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله الله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً بعيدا" 19.
ويقول ابن أسحق : مرض زيد بن حارثة فدخل عليه رسول الله (ص) وزينب بنت جحش امرأته عند رأسه فقامت لبعض شأنها فنظر إليها رسول الله (ص) ثم طأطأ رأسه فقال : سبحان الله مقلب القلوب والأبصار، فقال زيد أطقها لك يا رسول الله؟ فقال : لا، فانزل الله عز جل : "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه أنعمت عليه". 20
وفي رواية ثانية أن النبي ذهب ليزور زيداً فأرسل الله ريحاً رفعت الستر وزينب متفضلة (شبه عارية) في منزلها فرأى زينب فوقعت في نفسه ووقع في نفس زينب أنها وقعت في نفس النبي (ص) فلما جاء زيد أخبرته بذلك فوقع في نفس زيد أن يطلقها. وقال أبن عباس "وتخفي في نفسك" الحب لها و"تخشى الناس" أي تستحيهم وقيل تخاف وتكره لائمة المسلمين لو قلت طلقها ويقولون أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها. 21
وعرف زيد في نفسه أن أيامه مع زينب أصبحت معدودة. فذهب إلى الرسول ليخبره أنه أراد أن يطلق زينب. ورغم حب الرسول لها، حاول الرسول أن يقنع زيداً بأن يمسك إليه زوجه. وأخيرا تم الطلاق. وبعد انتهاء العدة، نزلت علي النبي آية تخبره أن الله قد زوجه زينب : "وإذ تقول للذي انعم الله عليه وأنعمت عليه امسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبدئه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً" 22. فجاء النبي إلى بيت زينب ودخل بها دون الحاجة إلى عقد قران أو شهود أو صداق.
وبدأ الناس يتحدثون عن النبي الذي تزوج زوجة ابنه، وكان هذا مكروهاً في الجاهلية، فأنزل الله : "ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليماً" 23.
ولإكمال الانفصال نهائياً بين الرسول وزيد أنزل الله : "أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فأخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً" 24
وبهذا أصبح التبني في الإسلام حراماً وانتهى نظامٌ كان يحفظ الأطفال من الضياع. وهناك في العالم الإسلامي الآلاف المؤلفة من الأطفال الأيتام واللقطاء من أبناء السفاح لا يستطيع أحد أن يتبناهم لأن التبني حرام. وهناك آلاف المتزوجين الذين ليس باستطاعتهم الإنجاب، وكان يمكنهم أن يتبنوا هؤلاء الأطفال. وليس هناك أي منطق مقنع لتحريم التبني إذ كان ممكناً أن يتزوج الرسول زينب بعد أن طلقها زيد، ويبقى التبني كما كان. ولكن ليسكت الله الألسنة التي تكلمت عن محمد الذي تزوج طليقة ابنه، حرّم الله التبني، ودفع أطفال المسلمين الذين لا أب لهم الثمن. فكل أبناء السفاح في العالم الإسلامي تشرف عليهم مؤسسات حكومية أو أهليه لا تعطيهم الحب والحنان الذي كان يمكن أن ينالوه من الوالدين بالتبني.
الخمر
الخمر هو مشروب يحتوي على كميات متفاوتة من الكحول، ويصنع من العنب، ويرجع تاريخها إلى ما قبل الميلاد. ويرجح المؤرخون أن شجرة العنب Vitis vinifera زُرعت في الشرق الأوسط حوالي عام 4000 قبل الميلاد. والمخطوطات المصرية القديمة التي يرجع تاريخها إلى عام 2500 قبل الميلاد ذكرت صناعة الخمر من العنب 25. والتوراة تذكر أن نوح زرع العنب بعد الفيضان وصنع منه خمراً أسكرته وجعلته ينام مكشوف العورة في خيمته 26. وأخذ الإغريق شجرة العنب وزرعوها في مستعمراتهم من البحر الأسود إلى اسبانيا.
والعرب من قبل الميلاد كانوا يعرفون الخمر التي كانت الوسيلة الوحيدة للترفيه عندهم وسط حياتهم القاحلة، مثل صحرائهم الشاسعة. فقد وجد علماء الحفريات في اليمن كتابةً منحوتةً في الحجارة يرجع تاريخها إلى عام 132 ميلادية كتبها رجل يدعى عبيدو بن غانمو بن سعدلات النبطي، دونها بمناسبة تقديمه مذبحين إلى الإله "شيع القوم" الذي لا يشرب الخمر وهو حامي القوافل. وأكثر الكتابات تذكر جملة "الذي لا يشرب الخمر" بعد اسم هذا الإله. ويظهر أن طائفةً من الناس حرّمت شرب الخمر ودعت إلى مقاطعتها واتخذت "شيع القوم" حامياً وإلهاً لها 27.
وشعراء الجاهلية تفننوا في وصف الخمر والسعادة التي كانت تجلبها لهم.
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تدعي خمور الأندرينا
مشعشعةٌ كأن الحُص فيها إذا ما الماء خالطها سخينا
تجور بذي اللبانة عن هواه إذا ما ذاقها حتى يلينا
ترى اللحذ الشحيح إذا أُمرت عليه لماله فيها مهينا 28
وجاء الإسلام ولم يذكر الخمر طوال الفترة المكية (13 سنة) التي كان المسلمون فيها يشربون الخمر، وفي المدينة استمروا كذلك لمدة ثلاثة إلى ثمانية أعوام قبل أن تحرم الخمر. وبدأ التحريم بسورة البقرة الآية 219 "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما". واستمر المسلمون في شربها حتى أتى يوماً عمر بن الخطاب أو عبد الرحمن بن عوف في رواية أخرى، إلى الصلاة وكان سكراناً فلخبط في قراءة القرآن، فنزلت الآية 43 من سورة النساء "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون". فاستمروا في شربهم لكن تفادوا الحضور إلى الصلاة حتى علموا ما يقولون.
ويقال أن العباس عم النبي سكر يوماً مع بعض أصحابه، وكان لعلي بن أبي طالب ناقتان خارج المنزل الذي سكر فيه العباس، فخرج العباس وبقر الناقتين وأخذ أكبادهما، فذهب عليّ بن أبي طالب للنبي يشتكي عليه العباس، وجاء النبي ورأى ما صنع العباس ولم يعجبه ما رأى فنزلت الآية 90 من سورة المائدة : "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله". ويقال إن الآية نزلت بعد أن سكر جماعة من الأوس والخزرج في جلسة وتفاخروا بأيامهم الماضية وكادوا أن يحتكموا للسيوف، فلما علم الرسول بذلك نزلت الآية.
وحتى بعد هذه الآية استمر نفر من المسلمين في الشراب لأنهم لم يقتنعوا بأن الإسلام قد حرم الخمر. فحكى شعيب عن سيف عن الربيع وأبي المجالد وأبي عثمان وأبي حارثة قالوا: كتب أبو عبيدة إلي عمر: أن نفراً من المسلمين أصابوا الشراب، منهم ضرار وأبو جندل، فسألناهم فتأولوا، وقالوا : إن الله خيرنا فاخترنا، فقد قال : "فهل أنتم منتهون" ولم يعزم علينا. فكتب إليه عمر : فذلك بيننا وبينهم، "فهل أنتم منتهون" يعني "فانتهوا". فكتب عمر إلي أبي عبيدة أن ادعهم فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين. فبعث اليهم فسألهم علي رؤوس الناس، فقالوا : حرام، فجلدهم ثمانين 29.
وبمجرد إنتهاء الخلافة وقيام الدولة الأموية أصبح شرب الخمر مباحاً وصدح بذلك الشعراء، وكثرت مجالس اللهو. ثم جاءت الدولة العباسية وتفنن شعراء المجون في وصف الخمر والقيان والغلمان، ووصف مجالس الخلفاء وسهراتهم. وما عاد الفقهاء يحفلون بتحريم الخمر إذ كان همهم الأول إرضاء الخلفاء أو على أقل تقدير، عدم إغضابهم لكي لا يحرموا وعاظ السلاطين من عطاياهم السخية. وفي البلاد الإسلامية الآن ليس هناك بلد إسلامي واحد ليس فيه خمور وشاربون لها من المسلمين. ففي كل دول الخليج بما في ذلك السعودية تسمح الدولة للسفارات والبنوك الأجنية باستيراد كميات كبيرة من الكحول لصرفها لموظفيهم غير المسلمين، وتجد الغالبية العظمى من هذه المشروبات طريقها للسعوديين الذين يدفعون ثمناً باهظاً لها. وهناك في السعودية ودول الخليج آلاف من الناس يشربون "الكولونيا" لأن بها نسبة معينة من الكحول. وفي دول الأمارات العربية والبحرين تبيع الفاندق المشروبات الكحولية للمواطنين والأجانب. والبلاد الإسلامية غير المتشددة مثل لبنان ومصر والمغرب يباع فيها الكحول علنياً.
وهناك من يجادل في مشروعية تحريم الخمر، لأن القرآن كان صريحاً في المحرمات وقال : "حُرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذُبح على النصب وأن تستقسموا بالازلام" 30 وكذلك قال : "حُرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ……" 31. وكذلك قال : "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرّم الربا" 32. وحتى في المرات القليلة التي لم يذكر فيها التحريم صراحة، قال القرآن "لا تفعلوا" بالنهي الصريح كما قال في الآية 95 من سورة المائدة : "يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرم".
ولكن في قصة الخمر فقد قال القرآن : "إنما الخمر والميسر والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه"، وهذه قد تفسر على أساس أنها موعظة من الله للمسلمين أن يجتنبوا الخمر إن أرادوا تجنب الضرر خاصةً أنه قال فيها منافع للناس وضررها أكثر من نفعها. فالنصيحة بالاجتناب ليست تحريماً، خاصة أن القران قال : يسألونك عن المحيض قل هو أذي فاعتزلوا النساء في المحيض 33. فهذه كذلك نصيحة من الله أن نعتزل أو نجتنب النساء في المحيض، وليس هناك عالم واحد يقول أن مجامعة النساء في المحيض حرام ويجب أن يُجلد الفاعل ثمانين جلدة. يقول العلماء أنه مكروه ولكن ليس عليه عقاب، والقرآن قد استعمل كلمات متشابهة فقال "فاجتنبوه" في حالة الخمر، و"فاعتزلوا النساء" في حالة المحيض. ثم ما الحكمة في تحريم الخمر وفيه منافع للناس غير السرور الذي تجلبه عليهم إذا لم يسكروا. فمن ضمن فوائد الخمر منع تصلب شرايين القلب وبالتالي التقليل من نسبة الإصابات بالذبحة الصدرية. وكذلك المرضى الذين يصابون بكسور في العظام ويدخل نخاع العظام في دمهم ويسبب لهم جلطة دهنية Fat embolism يكون علاجهم بحقن الكحول في الوريد. والمرضى الذين يشربون ماء مبرد السيارات كذلك يكون علاجهم بحقن الكحول في الوريد.
وحتى بدوت هذه الفوائد لماذا يُحرم الخمر لأن بعض الناس شرب أكثر من اللازم فسكر وأتى بما لا يُرضي الناس، بينما الغالبية من الناس تشرب لتنتشي ولا تسكر. فالذي يُسرف يضر بنفسه، وينطبق هذا على كل شئ حتى الطعام. فأغلب الناس يأكلون كميات معقولة من الطعام ولا يصيبهم ضرر، ولكن هناك أفراد يبالغون في الأكل فتصيبهم السمنة الزائدة التي تضر بهم ويمكن أن تتسبب في موتهم. فهل لأن الطعام أضر ببعض الناس نحرّمه على الباقين؟ وقد قال الرسول "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء". فالحمية في كل شئ مهمة، وكان يمكن أن يقول نفس الشئ عن الخمر، فالحمية فيه رأس الدواء.
المحرمات الأخرى
يعتقد علماء الإسلام أن الإنسان يجب أن يقضي يومه في رعي الإبل والصلاة وذكر الله فيما بين ذلك، ويقضي ليله في الصلاة وتلاوة القرآن والجماع لينجب أكبر عدد من الأطفال ليزيد بهم عدد المسلمين. ويجب على الإنسان أن يتحاشى كل ما يشغله عن ذكر الله. وحياة الإنسان العربي أصلاً كانت جافة جفاف الصحراء التي عاش فيها. فلم يكن له ما يستمتع به غير الشعر وشرب الخمر والغناء والعزف على آلات موسيقية بدائية مثل الدف والطنبور.
فجاء الإسلام فحرم عليهم الخمر، ثم قال الرسول إن أكثر ما يكره هو الشعراء، قال : "ولم يكن من خلق الله أحدٌ أبغض إليّ من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما، قال : قلت إن الأبعد (يعني نفسه) لشاعرٌ أو مجنون، لا تحدث بها عني قريش أبداً! لأعمدن إلى حالقٍ من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن" 34. فالرسول أراد أن يقتل نفسه حتى لا يقول الناس عنه إنه شاعرٌ أو مجنون. فأنزل الله "الشعراء يتّبعهم الغاوون". فأصبح الشعر في حكم المكروه.
ثم أكمل العلماء ما تبقى فحرموا الغناء والموسيقى والرقص، ولذا لم تتطور آلات الموسيقى العربية طوال هذه القرون، بينما نجد في الكنائس المسيحية الغناء والموسيقى والخمر. وهناك علماء محدثين وقدماء أباحوا الاستماع للموسيقى، ولكن الغالبية من العلماء مثل المودودي وسيد قطب وحسن الترابي والغنوشي والهضيبي يحرّمون سماع الأغاني والموسيقي ولم يكتف العلماء بذلك فحرّموا الرسم والنحت والتصوير لأن كل هذه الأشياء تشغل الناس عن عبادة الله، والإسلام يطلب منا أن نقوم الليل إلا قليلاً نتهجد لله. ولتكملة الصورة قالوا إن اللعب بأوراق الكوتشينة حرام واللعب بالشطرنج كذلك حرام، وقال عبد الله بن عمر إنه، أي الشطرنج، شرٌ من النرد، وقال عليّ بن أبي طالب إنه من الميسر، وقال بتحريمه مالك وأبو حنيفة وأحمد، وكرهه الشافعي 35. وبالطبع حرّموا التدخين كذلك. فماذا بقى للمسلم ليملأ وقته غير الصلاة وقراءة القرآن؟
——————————————————————————–
هوامش :
1- سورة المائدة، الآية 3
2- سورة الأنعام، الآية 145
3- سورة المائدة، الآية 5
4- تاريخ الطبري، المجلد الثاني، ص 147
5- العُجاب في بيان الأسبان، للعسقلاني، الطبعة الأولى، دار ابن حزم، بيروت، 2024، ص 460
6- تفسير غريب القرآن لابي محمد عبد الله مسلم بن قتيبة تحقيق السيد احمد صقر ص 496، 1978 دار الكتب العلمية- بيروت
7- النص المؤسس ومجتمعه، خليل عبد الكريم، منشورات الجمل، دار مصر المحروسة، القاهرة عام 2024، ص 171
8- سورة الروم، الآية 39
9- سورة البقرة، الآية 275
10- العجاب في بيان الأسباب للعسقلاني، دار ابن حزم، بيروت 2024، ص 461
11- صالح العلي، التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية ، ص 243/ نقلاً عن وعاظ السلاطين : د. عليّ الوردي، ص 74
12- صالح العلي: التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية ص 263
13- المصدر : www.fatawa.al-islam.com
14- إيلاف الالكترونية، عدد 5 أكتوبر 2024، نقلاً عن الراية القطرية
15- إيلاف الالكترونية، عدد 31 أغسطس 2024، نقلاً عن الراية القطرية www.elaph.com
16- https://www.al-islam.com
17- www.fatwa.al-islam.com
18- صحيفة إيلاف الالكترونية، عدد 19 نوفمبر 2024
19- سورة الأحزاب، الآية 36
20- السيرة النبوية لابن اسحق، المجلد الاول، ص 339
21- تفسير القرطبي لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي، المجلد الثامن
22- سورة الاحزاب الاية 37
23- سورة الأحزاب، الآية 40
24- سورة الأحزاب، الآية 5
25- الموسوعة البريطانية للعلوم
26- سفر التكوين، الإصحاح 9، الآية 20
27- تاريخ العرب قبل الإسلام" د. جواد علي، مطبوعات المجمع العلمي العراقي، بغداد 1951، المجلد الثالث ص 8
28- معلقة عمرو بن كلثوم
29- تاريخ الطبري، المجلد الثاني، ص 507
30- سورة المائدة الآية 3
31- سورة النساء الآية 23
32- سورة البقرة الآية 275
33- سورة البقرة الآية 222
34- تاريخ الطبري، المجلد الأول، ص 532
35- تفسير ابن كثير للآية 90 من سورة المائدة
وتــم تقيمج
تحياتي
عالي
في ميزان حسناتج انشاء الله
في ميزان حسناتج الشيخه
؟؟؟!!!
دمتي لناا