من أقبح الناس فعالاً وأسوأهم عاقبة العلماء الذين اشتروا الدنيا بالآخرة، وتقربوا إلى الملوك والأمراء بالفتاوى الكاذبة والأقوال المخترعة التي نسبوها إلى الشريعة الغراء، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وافتروا الكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إرضاء لأهواءهم الشخصية ومناصرة للأغراض السياسية.
وهذه المواقف والأفعال تُعقِب الفناء لأصحابها، وتورثهم الداء العياء، وتجلب لهم البلاء، وتشعرهم بالوهن والقلة والذلة والصغار، وشواهد ذلك في التاريخ كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر:
– ما فعله غياث بن إبراهيم النخعي الكوفي، فإنه دخل على أمير المؤمنين المهدي، وكان المهدي يحب الحمام ويلعب به، فإذا قدامه حمام، فقيل له: حدث أمير المؤمنين، قال: حدثنا فلان عن فلان أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح، فأمر له المهدي ببدرة، فلما قام قال: أشهد على قفاك أنه قفا كذاب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ثم قال المهدي: أنا حملته على ذلك، ثم أمر بذبح الحمام ورفض ما كان فيه[1].
– ذهب أحد الملوك لأداء العمرة وزيارة مسجد الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فلما كان عند قبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال أحد مرافقيه من بطانة السوء: سيدي إن قبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتشرف بكم. فقال له الملك: اخرس مقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أعلى من مقامي.
– كان أحمد بن أبي دؤاد من القائلين بخلق القرآن، وكان مقرباً عند المأمون، ولم يكن المأمون يأمر بامتحان الفقهاء والمحدثين في هذه المسألة إلا بعد أن مرض وتغلب عليه مستشاروه وبطانته، وكان ابن أبي دؤاد منهم فأوغروا صدر المأمون وحرضوه على توقيع كتب دعا الناس فيها إلى رأيه بقوة السلطان[2].
ثم تمضي السنون ويصاب أحمد بن دؤاد بمرض الفالج ويدخل عليه عبد العزيز الكناني وكان من مخالفيه ومناظريه في مسألة القول بخلق القرآن. ونقل الخطيب البغدادي أن عبد العزيز قال: دخلت على أحمد بن أبي دؤاد وهو مفلوج فقلت: إني لم آتك عائداً ولكن جئت لأحمد الله أن سجنك في جلدك[3]. {وكان عاقبة أمره خسراً}.
– ومن بطانة السوء ابن العلقمي الذي كان وزيراً عند الخليفة العباسي المستعصم بالله، وقبحه الله من وزير وجعل مأواه جهنم وبئس المصير، فلقد كان سبباً في هجوم التتار على بغداد، ففي أيام وزارته كان يغري الخليفة على تسريح معظم أفراد الجيش بحجة أنه تدفع لهم الأموال الطائلة والتكاليف الباهظة من بيت المال لغير ضرورة، وفي نفس الوقت كان على صلة بالمغول وقائدهم هولاكو وحثهم على مهاجمة بغداد دار الخلافة الإسلامية، فلما اجتاحوا بغداد قتلوا الخليفة ومن معه وعاثوا في البلاد فساداً، وأهلكوا الحرث والنسل وذلك في سنة 656 هـ فحلّت بالمسلمين مصيبة ونكبتهم نكبة تشيب من هولها الولدان، ونزلت بهم بلية لا تنسى على مر الحوادث والأزمان، فقد تعطلت المساجد عن صلاة الجمعة شهراً كاملاً، ولا عجب ولا غرابة من موقف ذلك الوزير فقد كان رافضياً[4].
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق إن نسي ذكرّه وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكرّه وإن ذكر لم يعنه"[5].
– ذكر الشيخ أحمد محمد شاكر – رحمه الله – قصة أحد خطباء المساجد التابعة لوزارة الأوقاف في مصر، وهو الشيخ محمد المهدي خطيب مسجد عزبان في عهد السلطان (حسين) الذي كان مواظباً على صلاة الجمعة، وصلى السلطان بمسجد المدبولي القريب من قصر عابدين، وندبت الوزارة (الأوقاف) ذلك الشيخ ليخطب الجمعة في ذلك المسجد لأنه كان خطيباً مفوهاً، فأراد أن يمدح السلطان على إكرامه "لطه حسين" حين تقرر إرساله في بعثة إلى أوربة، ولكن الخطيب خانته فصاحته وغلب عليه حب التغالي في المدح، فزل زلة لم تقم له قائمة من بعدها، حيث قال في أثناء خطبته: "جاءه الأعمى فما عبس في وجهه وما تولى".
وكان الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقاً ممن شهدوا تلك الجمعة فقام بعد الصلاة يعلن في المسجد للناس أن صلاتهم باطلة وعليهم أن يعيدوا صلاة الظهر فأعادوها، وذلك لأن الخطيب كفر بما شتم به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تعريضاً لا تصريحاً… ثم دخل في الأمر دخلاء السوء من أصحاب الخطيب، وأشاروا عليه برفع دعوى ضد الشيخ محمد شاكر، وثار البلد وكثر اللغط… ثم دخلت الحكومة في الأمر خشية ما يكون من جراء هذه القضية من أحداث وطوي بساطها قبل أن ينظرها القضاء.
قال الشيخ أحمد شاكر: لكن الله لم يدع لهذا المجرم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى فأقسمُ بالله لقد رأيته بعيني رأسي بعد بضع سنين وبعد أن كان متعالياً متنفخاً مستعزاً بمن لاذَ بهم من العظماء والكبراء، رأيته مهيناً ذليلاً خادماً على باب مسجد من مساجد القاهرة يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار حتى لقد خجلت أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني لا شفقة عليه، فما كان موضعاً للشفقة ولا شماتة فيه، فالرجل النبيل يسمو على الشماتة ولكن لما رأيت من عبرة وموعظة. اهـ[6]
أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض:
قال – تعالى -: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين} [هود: 116].
ثلة من أهل الخير يدعون إلى الهدى وينهون عن الفساد والردى قائمون بدين الله يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون على الأذى ويبصرون الناس من العمى، هؤلاء هم الأئمة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة: 24].
وكان هؤلاء الأئمة الأعلام يرون أن القرب من السلاطين والدخول عليهم يعني الركون إلى الدنيا، وليس هذا من شأن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وإن حصل لقاء بينهم وبين الأمراء أو جمعهم بهم مجلس فإنهم يذكرونهم بتقوى الله وإعطاء الناس حقوقهم وإنصاف المظلومين فتأمل بعض المواقف المشرفة والتي تحيي الأمل في النفوس:
– دخل عطاء بن أبي رباح على هشام، فرحب به وقال: ما حاجتك يا أبا محمد؟ وكان عنده أشراف الناس يتحدثون، فسكتوا، فذكره عطاء بأرزاق أهل الحرمين وعطياتهم، فقال: نعم، يا غلام اكتب لأهل المدينة وأهل مكة بعطاء أرزاقهم، ثم قال: يا أبا محمد هل من حاجة غيرها؟ فقال: نعم، فذكره بأهل الحجاز وأهل نجد وأهل الثغور ففعل مثل ذلك حتى ذكره بأهل الذمة أن لا يكلفوا مالا يطيقون فأجابه إلى ذلك، ثم قال له في آخر ذلك: هل من حاجة غيرها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، اتق الله في نفسك فإنك خلقت وحدك وتموت وحدك وتحشر وحدك وتحاسب وحدك، لا والله ما معك ممن ترى أحد.
قال: فأكب هشام يبكي وقام عطاء، فلما كان عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس ما ندري ما فيه أدراهم أم دنانير، وقال: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بهذا، فقال: ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، ثم خرج، ولا والله ما شرب عندهم حسوة ماء فما فوقها. [7]
– اجتمع سفيان والأوزاعي وعباد بن كثير بمكة فقال سفيان: يا أبا عمرو حدثنا حديثك مع عبد الله بن علي (عم السفاح) فقال: لما قدم الشام وقتل بني أمية جلس يوماً على سريره وعبّى أصحابه أربعة أصناف، صنف بالسيوف المسللة، وصنف معهم الجرزة، وصنف معهم الأعمدة، وصنف معهم الكافركوب، ثم بعث إلي فلما صرت إلى الباب أنزلوني عن دابتي وأخذ اثنان بعضدي وأدخلوني بين الصفوف حتى أقاموني بحيث يسمع كلامي، فقال لي: أنت عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي؟ قال: نعم أصلح الله الأمير، قال: ما تقول في دماء بني أمية، قال: قد كان بينك وبينهم عهود وكان ينبغي أن تفوا بها، قال: ويحك اجعلني وإياهم لا عهد بيننا، فأجهشت نفسي وكرهت القتل، فذكرت مقامي بين يدي الله فلفظتها فقلت: دماؤهم عليك حرام، فغضب وانتفخت أوداجه واحمرت عيناه فقال لي: ويحك ولم؟ قلت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيب زان، ونفس بنفس، وتارك لدينه، قال: ويحك أوليس الأمر لنا ديانة؟ قلت: كيف ذاك؟ قال: أليس كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أوصى لعلي؟ قلت: لو أوصى إليه لما حكم الحكمين. فسكت وقد اجتمع غضباً فجعلت أتوقع رأسي يسقط بين يدي، فقال بيده هكذا أومى أن أخرجوه فخرجت. فما أبعدت حتى لحقني فارس فنزلت وقلت قد بعث ليأخذ رأسي، أصلي ركعتين فكبرت فجاء وأنا أصلي فسلّم وقال: إن الأمير بعث إليك هذه الدنانير قال: ففرقتها قبل أن أدخل بيتي. [8]
– وعن الأوزاعي – رحمه الله – قال: بعث إلي المنصور وأنا بالساحل فأتيته فلما وصلت إليه وسلمت عليه استجلسني، ثم قال: ما الذي أبطأك يا أوزاعي؟ قلت: وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم. قلت: فانظر يا أمير المؤمنين أن تسمع شيئاً ثم لا تعمل به، فصاح بي الربيع، وأهوى بيده إلى السيف فانتهره المنصور وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة، فطابت نفسي وانبسطت في الكلام فقلت: يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بشر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "أيما وال مات غاشاً لرعيته حرم الله عليه الجنة".
يا أمير المؤمنين كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم أحمرهم وأسودهم ومسلمهم وكافرهم، وكل له عليك نصيب من العدل، فكيف بك إذا انبعث منهم فئام وراء فئام، ليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه؟!
يا أمير المؤمنين، إن الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك، وكذلك لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك.
يا أمير المؤمنين، بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك؟…
ثم قال: فهي نصيحة والسلام عليك. ثم نهض فقال: إلى أين؟ فقال: إلى الوطن بإذن أمير المؤمنين. فقال: أذنت لك وشكرت لك نصيحتك وقبلتها بقبولها، والله الموفق للخير والمعين عليه، وله أستعين وعليه أتوكل، وهو حسبي ونعم الوكيل، فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثلها فإنك المقبول القول غير المتهم في النصيحة.
قلت: أفعل إن شاء الله. فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله، وقال: أنا في غِنىً عنه، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض الدنيا كلها، وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ردّه. اهـ [9]
قال ابن قدامة بعد أن ساق مواقف أخرى للعلماء: هذه كانت سير العلماء وعاداتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوات السلاطين إيثاراً لإقامة حق الله – تعالى – على تقاتهم، إلا أن السلاطين كانوا يعرفون حق العلم وفضله فيصبرون على مضض مواعظ هؤلاء، والذي أراه الآن الهرب من السلاطين فهو الأولى فإن قدر لقاء اقتنع بلطف الموعظة حسب. [10]
وممن سلك هذا السبيل من الأئمة الأعلام محي الدين أبو زكريا النووي – رحمه الله – قال الحافظ الذهبي في ترجمته[11]: كان يواجه الملوك والظلمة بالإنكار ويكتب إليهم ويخوفهم بالله – تعالى -، كتب مرة: من عبد الله يحيى النواوي سلام الله ورحمته وبركاته على المولى المحسن ملك الأمراء بدر الدين أدام الله له الخيرات وتولاه بالحسنات وبلغه من خيرات الدنيا والآخرة كل آماله وبارك له في جميع أحواله آمين، وينهى إلى العلوم الشريفة أن أهل الشام في ضيق وضعف حال بسبب قلة الأمطار وذكر فصلاً طويلاً وفي طي ذلك ورقة إلى الملك الظاهر… وله غير رسالة إلى الملك الظاهر في الأمر بالمعروف… واقف الملك الظاهر بدار العدل غير مرة، فحكي عن الملك الظاهر أنه قال: أنا أفزع منه.
ومنهم سلطان العلماء العز بن عبد السلام الذي طلب من ملك المسلمين أن يعتق نفسه لأنه من المماليك، وذهب به العز بن عبد السلام إلى السوق… وقد ذكر علماء التراجم هذه القصة مفصلة فطالعها في مظانها.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه. فالمعصوم من عصم الله تعالى. [ صحيح البخاري، 6611 و7198 ]. وفي رواية هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من والٍ إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، فمن وُقي شرها فقد وُقي، وهو من التي تغلب عليه منهما. [ صحيح / صحيح سنن النسائي للألباني، 4212 ].
هاتان الروايتان تفسران بعضهما بعضا. ففي رواية أبي هريرة، " ما من والٍ "، وهي أعم. والخير الذي تأمر به البطانة الصالحة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على ما جاء في رواية أبي هريرة.
جاء في فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني ( ج: 13، ص: 202 ): البطانة: الدخلاء، جمع دخيل، وهو الذي يدخل على الرئيس في مكان خلوته، ويفضي إليه بسره، ويصدقه فيما يخبره به مما يخفى عليه من أمر رعيته، ويعمل بمقتضاه. وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي بشرح الترمذي ( ج: 6، ص: 237 ): " إلا وله بطانتان ": البطانة: الصاحب، وهو الذي يُعرّفه الرجل أسراره ثقة به, شبهه ببطانة الثوب.
وقوله: " وتحضه عليه ": أي ترغبه فيه وتؤكده عليه. وقوله في الرواية الأخرى: " بطانة تأمره بالمعروف ": أي ما عرفه الشرع وحكم بحسنه، " وتنهاه عن المنكر ": أي ما أنكره الشرع ونهى عن فعله.
وقوله " لا تألوه خبالا ": أي لا تقصر في إفساد أمره لعمل مصلحتهم, وهو اقتباس من قوله تعالى: ﴿ َلا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ﴾ ] آل عمران: 118 [. وقوله: " فالمعصوم من عصم الله "، وفي الرواية الأخرى: " ومن وقي شرها فقد وقي ": والمراد به إثبات الأمور كلها لله تعالى: فهو الذي يعصم من شاء منهم. " فالمعصوم من عصمه الله لا من عصمته نفسه "، إذ لا يوجد من تعصمه نفسه حقيقة إلا إن كان الله عصمه.
قال الحافظ : والمراد به إثبات الأمور كلها لله تعالى، فهو الذي يعصم من شاء منهم. فالمعصوم من عصمه الله، لا من عصمته نفسه. إذ لا يوجد من تعصمه نفسه حقيقة، إلا إن كان الله عصمه .
وفيه إشارة إلى أن ثم قسما ثالثا، وهو: أن من يلي أمور الناس قد يقبل من بطانة الخير دون بطانة الشر دائما, وهذا اللائق بالنبي, ومن ثم عبر في آخر الحديث بلفظة " العصمة ". وقد يقبل من بطانة الشر دون بطانة الخير, وهذا قد يوجد ولا سيما ممن يكون كافرا. وقد يقبل من هؤلاء تارة ومن هؤلاء تارة, فإن كان على حد سواء فلم يعترض له في الحديث لوضوح الحال فيه، وإن كان الأغلب عليه القبول من أحدهما فهو ملحق به إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
قال ابن التين: " يحتمل أن يكون المراد بالبطانتين الوزيرين، ويحتمل أن يكون الملك والشيطان ". وقال الكرماني: " يحتمل أن يكون المراد بالبطانتين: النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة المحرضة على الخير "، إذ لكل منهما قوة ملكية وقوة حيوانية انتهى. والحمل على الجميع أولى إلا أنه جائز أن لا يكون لبعضهم إلا البعض.
وقد استشكل هذا التقسيم بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم. لأنه وإن جاز عقلا, أن يكون فيمن يداخله من يكون من أهل الشر لكنه لا يتصور منه أن يصغى إليه, ولا يعمل بقوله لوجود العصمة. وأجيب بأن في بقية الحديث الإشارة إلى سلامة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، بقوله: " فالمعصوم من عصم الله تعالى ". فلا يلزم من وجود من يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بالشر، أن يقبل منه. وقيل: " المراد بالبطانتين في حق النبي: الملك والشيطان "، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " ولكن الله أعانني عليه فأسلم ".
وفي معنى الحديث السابق، الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ولي منكم عملا، فأراد الله به خيرا، جعل له وزيرا صالحا، إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه. [ صحيح / صحيح سنن النسائي للألباني، 4215 ].
ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن التين قوله، أنه " ينبغي للحاكم أن يتخذ من يستكشف له أحوال الناس في السر, وليكن ثقة مأمونا فطنا عاقلا "، لأن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به إذا كان هو حسن الظن به. فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك.
وفي أيامنا هذه، نجد أنه بمجرد تولي المسئول لمهام منصبه يكون أمامه خياران عند اختيار أفراد حاشيته، فإما أن يختارها من أهل الثقة، وإما أن تكون من أهل الخبرة. فأهل الثقة يضمن بهم المسئول استمراره في كرسيه، حتى ولو لم يؤدِ المهام المنوطة به. أما أهل الخبرة فيؤدي بهم المسئول عمله على أكمل وجه، ولكن يكون استمراره في منصبه محل شك كبير.
ولذلك يفضل الكثير من المسئولين إحاطة أنفسهم بحاشية من أهل الثقة، لضمان بقائهم واستمرارهم في مناصبهم لأطول وقت ممكن، بغض النظر عن اعتبارات مصلحة البلاد أو العباد. فالمصلحة الشخصية عندهم أهم من أي شيء آخر.
ويشيع بين الناس مقولة، مفادها " إن الوزير إذا دخل الوزارة فقد نصف عقله، فإذا خرج منها، فقد عقله كله ". وذلك مما يجده أثناء توليه لمهام منصبه من صلاحيات وامتيازات. فهو سيد مطاع، يخضع له الجميع بتنفيذ الأوامر، ويدين له الكل بالطاعة. فإذا خرج من الوزارة طاش لبه من فقدانه لكل ذلك النعيم الذي كان فيه، ومن تغير الناس له، وتنكرهم لشخصه.
ومن ناحية أخرى، بمجرد تولي الوزير لمهام منصبه، يلتف حوله حاشية من المسئولين، هدفها إحباطه عن أداء دوره، أو محاولة حبسه داخل مكتبه. وتعتبر هذه الحاشية من أهم أسباب فشل الوزراء. ويكون أفراد تلك الحاشية ممن يقلبون الأمور والصور، ليجعلوا من الصورة المضيئة صورة معتمة، أو من الصورة المعتمة صورة مضيئة، حتى تنقلب الموازين أمام الوزير. وهناك من الوزراء من يستسلم ويذعن، إلا أن هناك منهم من يرفض كل القيود المفروضة حوله، ويصر على نزع جدران مكتبه والانطلاق إلى مكاتب أفراد وزارته للتعرف بنفسه على المشاكل دون وسيط قد يغير من الصورة.
وتتنوع أهداف بطانة السوء من حجب الناس عن المسئول. فمنهم من يريد أن يقوى نفوذه ويكون هو صاحب الأمر والنهي. فالمسئول لا يعرف غيره، ومن ثم ينقل أوامره إليه. ويكون عليه هو إبلاغ تلك الأوامر إلى بقية المرؤوسين. فيبلغها إليهم وكأنه هو من أصدر تلك الأوامر.
ومنهم من يحاول استغلال قربه من المسئول في تحقيق المكاسب الخاصة من جراء علاقته به. فهو يلهث ورائه لانتزاع توقيعاته بالموافقة على أسفار واجتماعات ومقابلات يقوم بها، ليجمع من ورائها من الأموال التي ما كان يحلم أن يجمعها في حياته بعيدا عن ذلك المسئول.
ولذلك فهذه النوعية من بطانة السوء لا تطيق أن ترى أحدا غيرها في مكتب المسئول. ذلك أن دخول أي فرد إلى المسئول، إذا أثبت كفاءة ما، ففي ظن تلك البطانة أنها ستُحرم من مكانها بقرب هذا المسئول، ومن ثم فستُحرم من النعيم الذي تعيش فيه.
قال ابن قيم الجوزية في كتابه الماتع: الفوائد: قول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إَِّلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ﴾ ] الحجر: 21 [، متضمن لكنز من الكنوز وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه. وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه. وقوله: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾ ] النجم: 42 [، متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يُحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إَِّلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ﴾، واجتمع ما يراد له كله في قوله: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾. فليس وراءه سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى (1) .
لذلك فيجب على المرء أن يشغل نفسه بالله. فالقلب إن لم يمتلئ بمحبة الله، امتلئ بحب الدنيا وشهواتها وأصبح أسيرا لها. فمن الهام على من أوكل إليه منصب معين أن يتقي الله فيه. وألا يكون هذا المنصب هو محور حياته واهتمامه، بل يكون محور اهتمامه وتفكيره هو كيف يؤدي المهام الموكولة إليه بالطريقة التي ترضي ربه وتُعلي من شأن دينه. وعلى البطانة التي تحيط بالمسئولين أن تتقي الله وتراعي ضمائرها فيما تنقله لهؤلاء المسئولين وما تشير عليهم به. وعليهم أن يعلموا أن أيام نفوذهم محدودة، ثم يعقب ذلك عذاب ضمير ولعنات تلاحقهم أينما حلوا أو ارتحلوا. ثم يكون عقاب الله في يوم لا ينفع فيه نفوذ مسئول أو شفاعة رئيس!!
ولا تحسب أخي الكريم أن أرحام النساء قد عقمت عن إنجاب مثل هؤلاء فسل وابحث عنهم تجدهم – وإن كان وجودهم أعز من الكبريت الأحمر – إن أنقذت نفسك من التبعية والتهالك على الدنيا وأعرضت عن وسائل الإعلام الدنيئة في هذا الزمان، فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه. قال – تعالى -: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [البقرة: 174]. وقال – تعالى -: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرأون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار} [الرعد: 19 – 22]. {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} [الرعد: 25]…
—————————————-
[1] – الباعث الحثيث لأحمد شاكر، ص 89.
[2] – مقدمة كتاب الحيدة للدكتور جميل صليبا، ص: 28.
[3] – نقلاً عن كتاب الحيدة تحقيق جميل صليبا، ص: 50.
[4] – انظر البداية والنهاية لابن كثير، أحداث سنة 656 هـ.
[5] – سنن أبي داود، كتاب الخراج والفئ والإمارة، رقم الحديث: 2930.
[6] – انظر كلمة الحق، ص: 152، وما بعدها.
[7] – مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي، ص: 137.
[8] – تذكرة الحفاظ للذهبي: 1/180، رقم ترجمته: 177.
[9] – انظر مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي، ص 140، وما بعدها.
[10] – المصدر السابق، ص: 143.
[11] – تذكرة الحفاظ: 4/1470، رقم الحديث: 1162
هذا البحث يجب قرائتة و تعديلة و وضع المسميات عليه مثل المقدمة الموضوع ……..
الله يوفقك
دعوااااااااااتك لي بالتوفيق..