السلأآآآآآآآآآم عليكم ..
واتمنى من كل من بيفيده هالبحث بالتوافيج
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين … وبعد …
بين أيدينا موضوع قد حظي باهتمام كبير في العصر الحديث من جانب علماء التربية والاجتماع ، ألا وهو " الضبط الاجتماعي " .
والضبط الاجتماعي نظام قديم عرفته البشرية وعرفه الإنسان منذ القدم واتخذ لتحقيقه بعض الأساليب لتنظيم العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع من أجل إشباع حاجاتهم ولضمان استقرار المجتمع واستمراره ، إذ أن من طبيعة النفس الإنسانية التأثر بالغرائز المختلفة التي تسيطر على سلوك الإنسان وتنزح به عن الطريق السوي إذا لم يجد الوسيلة الضابطة لسلوكه ، ولذا فإن عملية الضبط الاجتماعي عملية قيمة لها دورها القوي والفعال في توفير الرقابة على الفرد والمجتمع .
وللضبط الاجتماعي صوراً ووسائل يتحقق عن طريقها ، والتربية هي الأداة لتحقيق تلك الوسائل والصور ، وهنا يبرز دور التربية في ضبط المجتمع .
وقد اهتم الإسلام بالمجتمع المسلم ، وحرص أشد الحرص على حفظ كيانه واستقراره ، فأصبح الإسلام نظاماً ضابطاً بكل ما يحويه من عبادات ومعاملات ، وقيم ومبادئ ، وأخلاق وآداب . وهو نظام صالح للتطبيق في كل زمان ومكان بالرغم مما يقوله المغرضون من أعداء الدين الإسلامي .
ويحق لنا أن نتساءل : ما هو مفهوم الضبط الاجتماعي ؟ وما هي نظرياته ؟ وهل للضبط ضرورة اجتماعية ؟ وما هي الوسائل والأساليب التي يتحقق من خلالها الضبط الاجتماعي ؟ وكيف استطاعت المجتمعات ضبط أفرادها قديماً وحديثاً ؟ ثم أين موقع التربية من كل ذلك ؟ وما موقف الإسلام من الضبط الاجتماعي ؟ وكيف استطاع الإسلام ضبط المجتمع ؟ وأخيراً هل صحيح ما يقال عن قصور الضوابط الإسلامية وقسوتها وظلمها للإنسانية ؟
أولاً : مفهوم الضبط الاجتماعي
يعد موضوع الضبط الاجتماعي من أهم الموضوعات التي تناولها العلماء والمفكرون ، واهتم به علماء التربية والاجتماع وعلم النفس لصلته الوثيقة بتنظيم المجتمعات وحياة الأفراد داخل هذه المجتمعات .
ولا يزال موضوع الضبط الاجتماعي يعاني كثيراً من الخلط والغموض ، ويرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى اختلاف العلماء أنفسهم في مسألة تحديدهم لمفهوم الضبط الاجتماعي ، وعدم اتفاقهم على تعريف واضح محدد له ، وكذلك عدم اتفاقهم على ميدان الضبط الاجتماعي وحدوده بوصفه عملية تنطوي على كثير من المضامين والمفهومات التي تتدخل في تحديد أبعاده ووظائفه بالنظر إلى أسسه ومجالاته النظرية والعملية ( أبو زيد ، 1980) .
وقد وردت إشارات إلى مسألة النظام والقواعد المنظمة للسلوك والسلطة في كثير من الكتب القديمة ، حيث تعرض فلاسفة اليونان القدماء لمسالة الضبط الاجتماعي ، ولكنهم استخدموا مصطلحات أخرى : كالقانون أو الدين أو العرف أو الأخلاق ( الرشدان ، 1999) .
غير أن أول رائد لمفهوم الضبط الاجتماعي هو العلامة العربي " ابن خلدون " الذي أشار في مقدمته إلى الضبط الاجتماعي بصورة أكثر وضوحاً وتحديداً في قوله : « إن الاجتماع للبشر ضروري ولابد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه ، وحكمه فيهم إما أن يستند إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه ، أو إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليه ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم ، فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة ، والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط » ( حسنين ، 1394)
كما يرى أن " الإنسان بحاجة إلى سلطة ضابطة لسلوكه الاجتماعي ، وأن عمران المدن بحاجة إلى تدخل ذوي الشأن والسلطان من أجل فاعلية النوازع وحماية المنشآت . ووسائل الضبط التي تحقق هذه الغاية تتمثل في : الدين ، والقانون ، والآداب العامة ، والأعراف ، والعادات ، والتقاليد … " ( الخطيب وآخرون ، 1995، ص530) .
ثانياً : الضبط ضرورة اجتماعية
الإنسان بطبيعته اجتماعي ، لا يستطيع العيش وحيداً ولابد أن ينتمي إلى جماعة يستمد منها القوة والأمن والطمأنينة ، ويسهم مع الآخرين في تحقيق الخير والمعيشة الكريمة . وقد بدأت المجتمعات البشرية بمجتمع العائلة ، ثم توسعت إلى مجتمع القبيلة ومجتمع القرية ومجتمع المدينة حتى أصبحت مجتمعات قومية .
وترتكز المجتمعات في بنيتها على العناصر التالية :
– قيم أخلاقية يؤمن بها أفراد المجتمع ، وتمثل الأهداف والغايات التي يسعون إلى تحقيقها .
– ترجمة قيم الجماعة إلى أنظمة وقوانين وأعراف تلتزم بها الجماعة في نشاطهم وسلوكهم ، ويعتبرون من يخالفها مذنباً يستحق العقاب . ( شطارة ، 1995)
وفي كل جماعة من الجماعات تنشأ طائفة من الأفعال والممارسات والإجراءات والطرق التي يزاولها الأفراد لتنظيم أحوالهم والتعبير عن أفكارهم وما يجول في مشاعرهم ، ولتحقيق الغايات التي يسعون إليها . وعندما تستقر هذه الأفعال في شعور الجماعة وترسخ في عقول الأفراد تصبح قواعد ملزمة ، تكون نظماً مختلفة تؤدي إلى التنظيم الاجتماعي الذي يرتكز عليه استقرار المجتمع ( دياب ، 1980) .
وقد اعتبر العالم " هربرت سبنسر " المجتمع كائناً عضوياً يشبه من كل نواحيه وخصائصه ومقوماته ووظائفه الجسم الحي ، كما أنه يتطور كما تتطور الكائنات العضوية ، فكما أن للجسم العضوي بناء عام أو هيكل يضم مجموعة من الأعضاء الداخلية كالقلب والمعدة والأمعاء ، ولكل عضو من هذه الأعضاء وظيفة معينة تتفاعل مع وظائف الأعضاء الأخرى من أجل إبقاء الجسم أو البناء العضوي حياً ، كذلك المجتمع بناء أو هيكل عام يضم مجموعة من النظم ( كالنظام السياسي والأسري والاقتصادي … ) . ويقوم كل نظام بأداء وظيفة محددة ، في إطار إشباع حاجات أعضاء المجتمع ، وتتفاعل هذه النظم مع بعضها بحيث تبقي المجتمع قائماً بذاته . وإذا حدث خلل جوهري في وظائف أي عضو من أعضاء الجسم ، فإنه يمرض وقد يصل إلى الوفاة ، كذلك فإن اختلال أي نظام من نظم المجتمع يؤدي إلى ظهور الأمراض الاجتماعية متمثلة في الجريمة والتفكك الأسري وانحراف الأحداث والتسيب … إلخ ، وكما أن الجسم الإنساني يموت فإن المجتمع يمكن أن يتفكك وينحل ( السمالوطي ، ج1 ، 1981) .
ثالثاً : نظريات الضبط الاجتماعي
اختلفت أفكار العلماء والباحثين حول مفهوم الضبط الاجتماعي وما ينضوي عليه ، وتعددت تعريفاتهم لمصطلح الضبط الاجتماعي ، وتبعاً لذلك ظهرت عدة نظريات في مجال الضبط الاجتماعي ، كل نظرية تفسر وجهة نظر صاحبها وفكرته عن الضبط الاجتماعي .
وفيما يلي عرض موجز لأهم نظريات الضبط الاجتماعي الغربية القديمة والحديثة .
1- نظرية تطور وسائل الضبط الاجتماعي ( روس Ross ) :
تقوم هذه النظرية على أساس الطبيعة الخيرة للإنسان ، إذ يعتقد روس أن داخل النفس الإنسانية أربع غرائز هي : المشاركة أو التعاطف ، القابلية للاجتماع ، الإحساس بالعدالة ، ورد الفعل الفردي . تشكل هذه الغرائز نظاماً اجتماعياً للإنسان يقوم على تبادل العلاقات بين أفراد المجتمع بشكل ودي ( السالم ، 2000) . وكلما تطور المجتمع ضعفت تلك الغرائز وظهرت سيطرة المصلحة الذاتية عليه ، وهنا يضطر لمجتمع لوضع ضوابط مصطنعة تحكم العلاقات بين أفراده ( الحامد والرومي ، 2001) وتزداد تلك الضوابط وتتطور كلما ازداد تحضر المجتمع ، وتعقدت أنظمته ، وتباينت جماعاته . أي أن هناك مجموعة أسباب أوجدت الحاجة إلى الضبط الاجتماعي وتطور وسائله وهي ( جابر ، 1984) :
1- زيادة حجم السكان وظهور طوائف وعشائر جديدة .
2- ضعف الغرائز الطبيعية ، وظهور الأنانية الفردية .
3- ظهور جماعات متباينة ( اقتصادياً أو عنصرياً أو طبقياً أو ثقافياً … ) في المجتمع الواحد .
2- نظرية الضوابط التلقائية ( سمنر Sumner ) :
تنصب الفكرة الأساسية لنظرية سمنر على أن الصفة الرئيسة للواقع الاجتماعي تعرض نفسها بطريقة واضحة في تنظيم السلوك عن طريق العادات الشعبية ، إذ أنها تعمل على ضبط التفاعل الاجتماعي ، وهي ليست من خلق الإرادة الإنسانية ( الرشدان ، 1999) . فهو يقول في كتابه " الطرائق الشعبية " : « إن الطرائق الشعبية عبارة عن عادات المجتمع وأعرافه ، وطالما أنها محتفظة بفاعليتها فهي تحكم بالضرورة السلوك الاجتماعي ، وبالتالي تصبح ضرورية لنجاح الأجيال المتعاقبة » فالأعراف عند سمنر لها أهمية بالغة ، فهي التي تحكم النظم والقوانين وهو يرى أنه لا يوجد حد فاصل بين الأعراف والقوانين ، والفرق بينهما يكمن في الجزاءات ، حيث أن الجزاءات القانونية أكثر عقلانية وتنظيماً من الجزاءات العرفية ( جابر ، 1984) .
3- نظرية الضبط الذاتي ( كولي Cooley ) :
ينظر كولي للمجتمع على أساس أنه كل لا يتجزأ يعتمد في تنظيمه الاجتماعي على الرمز والأنماط والمستويات الجمعية والقيم والمثل ، فهو يرى أن الضبط الاجتماعي هو تلك العملية المستمرة التي تكمن في الخلق الذاتي للمجتمع ، أي أنه ضبط ذاتي يقوم به المجتمع ، فالمجتمع هو الذي يضبط ، وهو الذي ينضبط في نفس الوقت . وبناءً عليه فالأفراد ليسوا منعزلين عن العقل الاجتماعي . والضبط الاجتماعي يُفرض على الكل الاجتماعي وبواسطته ، وهو يظهر في المجتمعات الشاملة والجماعات الخاصة ( الرشدان ، 1999) .
4- النظرية البنائية الوظيفية ( لانديز Landis ) :
يركز لانديز على مكونات البناء الاجتماعي ودورها في الضبط الاجتماعي ، كما يركز على مفهوم التوازن الوظيفي بين النظم الاجتماعية وعلاقة هذه النظم بالضبط الاجتماعي . ويصور لانديز النظم الاجتماعية على شكل خط متصل نظري ، يمثل أحد طرفيه التفكك الاجتماعي الذي يتسم بالفوضوية والنزعات الفردية ، بنما يمثل الطرف الآخر التنظيم الاجتماعي الأكثر صرامة والذي يتميز بالاعتماد على السلطة المطلقة ، وبينهما توجد منطقة تسامح واسعة ( السالم ، 2000) مشاكل الحاضر ويمده بالوسائل والأساليب اللازمة لذلك " ( جابر ، 1984 ، ص107) .
5- النظرية الثقافية التكاملية ( جيروفيتش Gurvitch ) :
يركز جيروفيتش على ضرورة دراسة الضبط الاجتماعي على أسس وشروط تتمثل في :
1- أن الضبط الاجتماعي ليس نتيجة لتطور المجتمع وتقدمه ، بل أنه كان موجوداً في المراحل المبكرة من تاريخ المجتمعات الإنسانية ، إذ يستحيل تصور مجتمع بلا ضوابط .
2- أن الضبط الاجتماعي واقع اجتماعي وليس أداةً للتقدم .
3- عدم وجود صراع بين المجتمع والأفراد .
4- أن كل نمط من أنماط المجتمعات هو عبارة عن عالم صغير يتألف من جماعات ، ولذا فإن مؤسسات الضبط الاجتماعي تختلف باختلاف الجماعات والمؤسسات. (الحامد والرومي،2001)
ويذهب جيروفيتش إلى أن الضبط الاجتماعي إما أن يكون ضبطاً منظماً ، أو ضبطاً عن طريق الممارسات الثقافية والرموز كالعادات والتقاليد ، أو ضبطاً تلقائياً من خلال القيم والأفكار والمثل ، أو ضبطاً أكثر تلقائية من خلال الخبرة الجمعية المباشرة ( السالم ، 2000 ) .
تلك كانت أهم النظريات في الضبط الاجتماعي ، ويتضح مدى التباين والاختلاف في نظرة علماء الاجتماع إلى طبيعة الضبط الاجتماعي ، فقد اهتم روس بالغرائز الإنسانية ودورها الإيجابي والسلبي في الضبط الذاتي ، في حين ركز سمنر على الأعراف والتقاليد ، واعتبرها الوسيلة الوحيدة والضابطة للمجتمع ، بينما أبرز كولي دور المثل والقيم في تحقيق الضبط الذاتي فضبط الجماعة ينبع من ضبط الفرد لذاته . أما لانديز فقد اهتم بالنظم الاجتماعية باعتبارها أدوات الضبط الاجتماعي ، ووضع جيروفيتش شروطاً ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند دراسة الضبط الاجتماعي .
أولاً : أساليب الضبط الاجتماعي والمعايير الاجتماعية
يقصد بأساليب الضبط الاجتماعي : الطرق والممارسات التي تتحكم في تصرفات الأفراد وتعمل كقوى تجبر الأفراد على الخضوع للمعايير الاجتماعية .
فكل مجتمع من المجتمعات البشرية له أساليب ضبط تنظم حياة البشر وتحكم طرق معاملاتهم وسلوكياتهم لتحقيق الضبط الاجتماعي كالقوانين والأعراف والعادات والتقاليد .
وتختلف أساليب الضبط الاجتماعي في أهميتها باختلاف المجتمعات وباختلاف الزمان والمكان ، " فقد تكون الطرائق الشعبية أسلوباً من الدرجة الأولى في بعض المجتمعات ، ويكون القانون في المرتبة الثانية ، وقد يحدث العكس " ( السالم ، 2000 ، ص79) .
ويشير جيب ( Gibbs , 1981 ) إلى أن تعدد صور وأنواع الضبط الاجتماعي وتغيرهما من مجتمع لآخر ، ومن عصر إلى آخر ، يشكل موضوعاً غامضاً في علم الاجتماع ، كما أن تلك الظواهر المتنوعة للضبط الاجتماعي جعلت من الصعب إعطاء تعريف محدد ومناسب له .
كما يؤكد جانوتز ( Janowitz , 1991 ) أن صور وأنواع الضبط الاجتماعي جاءت نتيجة تغيرات شخصية سابقة ، وكل من هذه الصور له تأثير مختلف على السلوك الاجتماعي ، ومهمة علم الاجتماع تتركز في بحث هذه الصور ونتائج الضبط الاجتماعي ، وهذا يعني الإجابة على السؤال الافتراضي : أي صور الضبط الاجتماعي هي الأكثر تأثيراً ، وكيف يمكن للجماعة أن تضبط ذاتها ضمن مبادئ أخلاقية شرعية تفضي إلى خفض السيطرة القسرية .
ومن هنا فقد اختلف العلماء في تحديد مصطلح لهذه الأساليب ، كما اختلفوا في تصنيفها ، فسماها روس وسائل الضبط الاجتماعي وحددها في خمس عشرة وسيلة مرتبة كما يلي ( سليم ، 1985) :
1- الرأي العام . 6- التقاليد . 11- الشخصية .
2- القانون . 7- دين الجماعة . 12- التراث .
3- المعتقدات . 8- المثل العليا . 13- القيم الاجتماعية .
4- الإيحاء الاجتماعي . 9- الشعائر والطقوس . 14- الأساطير والأوهام .
5- التربية . 10- الفن . 15- الأخلاق .
بينما صنف لانديز وسائل الضبط الاجتماعي إلى قسمين ( الحامد والرومي ، 2001) :
1- الوسائل الضرورية لإيجاد النظام الاجتماعي ، وتشمل : القيم ، والمعايير ، والأعراف ، والعادات .
2- وسائل تدعيم النظام الاجتماعي ، وقسمها إلى قسمين :
أ ) النظم الاجتماعية ، كالأسرة والدين والمدرسة والاقتصاد والعلم والتكنولوجيا .
ب) الأبنية الاجتماعية ، كالجنس والطبقة والجماعة الأولية والثانوية .
وحدد بارسونز خمسة أساليب للضبط الاجتماعي وهي ( الحامد والرومي ، 2001) :
1- التنشئة الاجتماعية . 2- المقاطعة الاجتماعية . 3- ضغط الجماعة .
4- السجون المنظمة . 5- قيام المؤسسات والمنظمات .
أما لابيير فقد ميز بين وسائل الضبط الاجتماعي من الناحية العملية ( وتشمل : الصحافة والإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح ) ، وبين الأساليب الفنية التي تكمل تدعيم سلطة الجماعة على أفرادها وتتلخص في أنواع الجزاءات ( الجمعية والنفسية والرمزية والتوقعية ) . ( الخشاب، د.ت ) .
بينما يميز جيروفيتش بين صور الضبط الاجتماعي وأنواعه وهيئاته . فأنواع الضبط الاجتماعي هي القانون والدين والمعرفة والتربية والفن والأخلاق ( السالم ، 2000) . أي أنه اعتبر تلك الأمور أنواعاً للضبط الاجتماعي وليست وسائل أو أساليب .
وعلى الرغم من اختلاف علماء التربية والاجتماع في مسمى أساليب الضبط الاجتماعي وتصنيفاتها ، إلا أن الإجماع يكاد يكون واحداً على أهمية هذه الأساليب ، " فالنظام الاجتماعي يعتبر نتاجاً طبيعياً لفاعلية وسائل الضبط الاجتماعي " ( الرشدان ، 1999 ، ص200) .
ونلحظ خلطاً كبيراً بين أساليب الضبط الاجتماعي والمعايير الاجتماعية ، ومن هنا نجد أنه لزاماً علينا أن نوضح المقصود بالمعايير الاجتماعية .
المعايير الاجتماعية :المعيار الاجتماعي هو " مقياس أو قاعدة أو إطار مرجعي للخبرة والإدراك الاجتماعي والاتجاهات الاجتماعية والسلوك الاجتماعي . وهو السلوك الاجتماعي النموذجي أو المثالي الذي يتكرر بقبول اجتماعي دون رفض أو اعتراض أو نقد " ( الرشدان ، 1999 ، ص93) . فالاتجاهات التي يشترك فيها أفراد الجماعة والتي تيسر لهم سبيل التفاعل والتواصل هي معايير اجتماعية للجماعة .
وقد عبر سمنر عن المعايير بقوله : « إنها ضوابط تشبه القوى الطبيعية التي يستخدمها الأفراد دون وعي منهم ، وتنمو مع التجربة وتنتقل من جيل إلى جيل دون أن يحدث أي شذوذ أو انحراف في طبيعة الأداء ، ورغم ذلك فهي قابلة للتغـير والتطور بما يتفـق مع طبيعة المجتمع » ( سليم ، 1985) .
والمعايير الاجتماعية تشمل عدداً هائلاً من تفاعل الجماعة في ماضيها وحاضرها وتقع ضمن : الأخلاق ، والقيم الاجتماعية ، والعادات والتقاليد ، والأحكام القانونية والعرف ، وبوجه عام هي التي تحدد ما هو صواب وما هو خطأ ، وما هو جائز وما هو غير جائز ، وما يجب أن يكون وما يجب ألا يكون ، حتى يكون الفرد مقبولاً من الجماعة ملتزماً بسلوكها ومسايراً لقواعدها ومتجنباً لرفضها ( شفيق ، 1997) .
" وعلى رأس المعايير الاجتماعية تأتي التعاليم الدينية ، والمثل العليا ، والخلق النبيل ، والعادات الحسنة التي تنتشر في المجتمع فتكون هي أساس الحكم ومنطلق القياس " ( الطبيب ، 1999 ، ص100) .
وهذه الأنواع من المعايير الاجتماعية تؤدي غرضاً واحداً ، هو إمداد أفراد المجتمع بمعاني موحدة يستطيعون بواسطتها أو عن طريقها التعامل فيما بينهم وفق هذه المعايير وأن يفهم بعضهم البعض الآخر ، وبذلك تصبح هذه المعايير ضرورية لكل شكل من أشكال السلوك وتفسيره . ولذلك فالحكم على السلوك وتفسير السلوك إنما يخضع لبعض المعايير الاجتماعية ( الطبيب ، 1999) .
ونخلص مما سبق إلى أن المعايير الاجتماعية هي القواعد التي يستند إليها المجتمع ، بينما أساليب الضبط الاجتماعي هي الطرق والوسائل التي تمارس لتطبيق تلك القواعد بهدف الحفاظ على المجتمع من التفكك والانهيار .
أولاً : دور الدين في ضبط المجتمعات
احتل الدين مكانة كبيرة في المجتمعات منذ القدم ، ولاحظنا الدور الذي يقوم به الدين في ضبط المجتمع عند استعراضنا لأساليب الضبط الاجتماعي في الفصل السابق ، حيث " كان الدين منذ القدم هو المصدر المتجدد للأخلاق والقيم ، وهو التنظيم الاجتماعي الوحيد الذي يسود الحياة الاجتماعية وينسقها " ( الحامد والرومي ، 2001 ، ص36) . " ويرى العلامة ابن خلدون أن ضبط النفس إما أن يكون خارجياً يتحقق عن طريق القانون ، وإما داخلياً يتحقق عن طريق الدين والشريعة ، وإما أن يكون ضبطاً اختيارياً يأتي عن طريق الضمير " ( السالم ، 2000 ، ص38) . والمجتمع لا يترابط ولا يتماسك إلا بفضل الدين ، كما لا يوجد المجتمع أصلاً إلا على أساس الإيمان الجمعي .
ويشير إيريك فروم في كتابيه ( المجتمع السليم ) و ( الخوف من الحرية ) إلى أن نسبة الاضطرابات النفسية والعصبية تزداد في المجتمعات الحضرية الحديثة ، حيث تضعف المشاعر الدينية ، وحيث يزداد الإحساس بالفردية والغربة والصراع ، وحيث يزداد القلق والتوتر ( سليم، 1985) ، ولا يخفى ما تسببه تلك الاضطرابات من سلوكيات مرفوضة وتهديد لاستقرار تلك المجتمعات وأمنها .
وفي دراسة أجراها دوركايم عن ظاهرة الانتحار بعد أن ارتفعت نسبته في المجتمعات البروتستانتية عن المجتمعات الكاثوليكية ، تبين أن السبب في هذه الزيادة هو أن المذهب البروتستانتي يؤمن أصلاً بحرية الفكر ، ويؤكد الفردية ويدعم روحها ، ولا يؤمن بمظاهر الشعائر مما أدى إلى قلتها ، بعكس المذهب الكاثوليكي الذي يؤمن بروح المحافظة والتمسك بمظاهر التقاليد والشعائر . ومن هنا أدى تحديد المعتقدات والسلوك البروتستانتي إلى ضعف واضح في درجة الالتحام والتماسك الاجتماعي ؛ مما هدم روح المحافظة والتضامن الاجتماعي فظهرت بوادر التفكك والتخلخل واضحة بين الفرد ومجتمعه ( سليم ، 1985) .
وقد ذهب دوركايم إلى أن أقدم ديانة إنسانية هي عبادة المجتمع لنفسه ، ويعتقد أن أول ما انبثق عن عبادة المجتمع لنفسه هو نظام التحريم الذي يعتبر الأساس في الضبط الاجتماعي الذي يعتمد على أساس خلقي وديني في آن واحد ( الخشاب ، د.ت ) .
ونظراً لأهمية الدين وقوته كوسيلة للضبط الاجتماعي ، فقد وضعه دوركايم على قمة النظم الاجتماعية ، فالدين بتعاليمه وأوامره ونواهيه يعتبر من أقوى عوامل تحقيق التوافق في السلوك الاجتماعي ، كما أن فكرة الثواب والعقاب التي تؤلف ركناً هاماً في الدين ، تلعب دوراً هاماً في عملية الضبط الاجتماعي وفي إقرار النظام في المجتمع ( سليم ، 1985) .
" ومن هنا تبدو أهمية الدين في الحياة الاجتماعية ، لأنه يسد حاجة من حاجاته الضرورية ، بفضل وضع القواعد والقوانين التي تنظم علاقات الأفراد وتعمل على التماسك الاجتماعي ، واستقرار النظام والاطمئنان النفسي والسمو بالمشاعر الذاتية كلما زاد تعلق الأفراد بالقوى والرموز الغيبية " ( سليم ، 1985 ، ص72) .
موقف الإسلام من الضبط الاجتماعي :
الدين هو " وضع إلهي سائغ لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل " ( السمالوطي ، ج2 ، 1981 ، ص21) .
والدين الذي ارتضاه الله لعباده هو الدين الإسلامي﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾(آل عمران:19) " فالإسلام منهاج للحياة وطراز خاص للتفكير والعمل ، وهو يعني طاعة الإنسان لربه وإسلام وجهه إليه ، وأن يقبل المسلم المنهاج الفكري والعملي الذي أنزله الله لهداية البشر ، ويتبعه منقاداً له منسلخاً من الفوضى الفكرية والعملية " ( السمالوطي ، ج2 ، 1981 ، ص22) .
ويعني الضبط الاجتماعي في المجتمع المسلم الامتثال للقواعد والمعايير والقيم الإسلامية التي تحصل بها تقوى الله ، وما مجموعة الأعراف والتقاليد والقيم الاجتماعية وطرائق التربية التي تنشأ في المجتمع الإسلامي إلا أساليب ضابطة ، فإذا كانت في حدود تعاليم الإسلام ومتفقة معه فهي مقبولة والامتثال لها يدعم التماسك الاجتماعي ، أما إذا خالفت قواعد شرعية فيجب نبذها واستبدالها بما يتوافق مع تعاليم الدين الإسلامي ( السالم ، 2000) .
إن مفهوم الضبط الاجتماعي من منظور إسلامي يتضح في إدراك أن الإنسان لم يخلق في هذه الحياة عبثاً ، وإنما جاء للقيام بمهمة تتمثل في العبادة الخالصة لله وحده وخلافة الأرض وعمارتها ، وهذا يقتضي أن يلتزم الإنسان بالضوابط المحددة لسلوكه والتي تضمن له ولمجتمعه الخير والسعادة وتحفظهم من الشرور وتحقق لهم الأمن والاستقرار وتقيهم من الانحراف والفوضى .
ويتدرج الضبط الاجتماعي في الإسلام بدءاً من الانضباط الذاتي للمسلم الذي يراقب تصرفاته ويحسن سلوكه انطلاقاً من حقيقة ثابتة أقرها قول الرسول : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ( الحامد والرومي ، 2001) .
وخضوع الفرد للنظام الإسلامي بمجرد انتمائه للإسلام يفرض عليه تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه في السر والعلن ليس خوفاً من السلطة ولا نفاقاً للمجتمع ، وإنما حباً في هذا النظام وإيماناً واقتناعاً بمبادئه ، وهذا بدوره يزيد من طاقة الفرد وشعوره بالانتماء للجمـاعة ( الحامد والرومي ، 2001) .
وينطوي الضبط الاجتماعي في الإسلام على معنى الطاعة والامتثال لأمر الله تعالى ، والطاعة قد تكون فردية أو اجتماعية . والمراد بالطاعة الفردية كل ما يقوم به الإنسان بإرادته الشخصية امتثالاً لأحكام الله المتعلقة بحياة الإنسان ذاته ، قال تعالى ﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ﴾ (الأحزاب:36) . والطاعة الاجتماعية هي امتثال أفراد المجتمع للأحكام الشرعية الاجتماعية التي جاء بها الإسلام ويباشرها الحاكم أو ولي الأمر ، قال تعالى : ﴿ يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً ﴾ (النساء:59) ( الخطيب وآخرون ، 1995) .
ثانياً : أساليب الإسلام في ضبط المجتمع
وضع الإسلام أسس كثير من الأمور الاجتماعية ، كقواعد الإرث والزكاة وغنائم الحروب وأصول المبايعات والمفاوضات ، ودعا إلى مكارم الأخلاق ، كما بين علاقة الفرد بالمجتمع ومعاملة الأفراد ، وما يتعلق بالحدود والقصاص ، كما هدا إلى الآداب العامة كبدء التحية بالسلام ، واحترام المسنين والرفق بالنساء والصبيان ، وحتم على أتباعه عامة طاعة الله ورسوله وأولي الأمر في غير معصية الله ( الرفاعي ، 1998) .
وتنبثق تلك الأسس من مصادر معروفة في الإسلام والمجتمعات ، حيث " إن مصادر الضبط الاجتماعي في الإسلام هي القرآن والسنة والعرف والعادة ، وفي إطار هذه المصادر تتحدد التشريعات والقواعد الخلقية والقيم التي توجه علاقات الفرد بالآخرين في المجتمع الإسلامي " ( العمايرة ، 1999 ، ص289) .
وأول هذه المصادر وأهمها على الإطلاق هو القرآن الكريم ، ذلك الكتاب المعجز بآياته ، المحكم في تشريعاته ، المتحدي بعظمته . وقد حدد القرطبي إعجاز القرآن في عشرة أوجه ، عدَّ من بينها تشريعاته ، فتشريعات الكتاب الكريم منها ما هو تنظيم اجتماعي ، ومنها ما هو خاص بالسياسة والحكم ، ومنها ما هو خاص بالنظام المالي والأنظمة المدنية ، ومنها ما هو خاص بأمن الجماعة وسلامتها ، ومنها ما هو خاص بنظام الحرب والسلم وعلاقة غير المسلمين بالدولة الإسلامية . ومن هنا يتبين أن تشريعات القرآن هي باب عظيم من أبواب إعجاز البشر وتحديهم ( الرفاعي ، 1998) .
ويعد الدين الإسلامي أقوى الأديان ضبطاً للمجتمع . وتشمل تعاليم الدين الإسلامي مجموعة الضوابط التي يحتاج إليها الفرد متمثلة في العبادات والمعاملات .
فالأوامر والنواهي الخاصة بالمعاملات تحفظ النظام الاجتماعي بطريق مباشر ، وذلك بإيقاف كل فرد عند حدود لا يتعداها . أما الأوامر والنواهي الخاصة بالعبادات فهي تحفظ النظام الاجتماعي بطريق غير مباشر ، وذلك بتهذيب الفرد كي يستطيع الرضوخ للأوامر والنواهي الخاصة بالمعاملات ( سليم ، 1985) .
وقرر الإسلام ثلاثة ضوابط اجتماعية تشكل منهجاً متكاملاً لحياة آمنة مستقرة ، فهناك ضابط ذاتي مصدره داخل النفس الإنسانية حيث تشكل تعاليم الشريعة ضابطاً خلقياً يحاكم الإنسان نفسه إذا أخل بها . أما الضابط الثاني فهو ضابط اجتماعي مصدره المجتمع ، فعندما يكثر تداول أحكام الشريعة على المستوى الاجتماعي تصبح بعض الأحكام أعرافاً ومصطلحات اجتماعية تحدد نوع السلوك المقبول والمرفوض في المجتمع . والضابط الثالث هو ضابط السلطة حيث تتولى تطبيق العقوبات الشرعية المقررة لأنواع المخالفات . تتكامل هذه الضوابط لتحقق حياة أقرب إلى السعادة والكمال ( السالم ، 2000) .
ويمكن تقسيم الضوابط الاجتماعية في الإسلام إلى أربعة مجالات ، تشمل جميع جوانب حياة الفرد وعلاقته بالجماعة ، ويتضمن كل مجال مجموعة من الضوابط ، وهذه المجالات هي :
1- العبادات .
2- المعاملات .
3- الآداب والأخلاق .
4- العقوبات .
وفيما يلي ، نلقي الضوء على بعض ضوابط الإسلام في المجالات السابقة ، ولا يمكن بأي حال حصر الضوابط الإسلامية كلها ، فالإسلام لم يترك كبيرة ولا صغيرة في حياتنا إلى وضع لها ضابطاً يحميها .
1- العبادات :
إن العبادات في الإسلام تعتبر ضوابط اجتماعية إيجابية ، فهي ليست مقصورة أو مفروضة لمجرد التعبد ، وإنما لتنظيم وضبط علاقة الفرد بالله ، ولتنظيم معاملات وعلاقات أفراد الجماعة بعضهم بالبعض الآخر .
فالصلاة مثلاً ، تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشـاء والمنكر ﴾ ( العنكبوت:45) فهي وإن كانت فريضة دينية ، إلا أنها تهدف إلى تحقيق أهداف ومثل خلقية في ضبط السلوك الإنساني ( الخشاب ، د.ت ) فالصلاة لها أكبر الأثر في تطهير النفس وردعها عن الرذائل ، والمحافظ على صلاته هو محافظ في سلوكه وواجباته وتعاملاته المختلفة وقد شبه الرسول الكريم أثر الصلوات الخمس في تطهير النفس كأثر النهر الجاري في تطهير البدن حين قال : " أرأيت لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه في يومه خمس مرات ، هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا يا رسول الله . قال : فكذلك الصلاة " .
مما سبق نرى " أن العبادات تخدم المعاملات ، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والصوم يهذب النفس ويشعرها بمرارة الحرمان فيجود الفرد على البائس والمحروم ، والزكاة تذهب أساساً للمحتاجين على اختلاف أنواعهم ، والحج لا يخرج الفرد إليه إلا بعد أداء ما عليه من واجبات نحو الآخرين " ( سليم ، 1985 ، ص74) .
2- المعاملات :
إن الشريعة الإسلامية عرضت لقواعد وضوابط اجتماعية تتعلق بنظام الحكم ، والعلاقة بين الحاكم والمحكومين ، وانطوت على كثير من الضوابط القانونية التي تعتبر من طبيعة مدنية ، مثل قواعد العقوبة على الجرائم الاجتماعية كالقتل أو الشروع فيه ، والسرقة وجريمة الزنا ، كما انطوت على ضوابط حتى فيما يتصل بالأطعمة والأشربة من حيث إباحتها أو عدمه كتحريم أكل الخنزير وشرب الخمر ( الخشاب ، د.ت ) .
كما وضع الإسلام في شئون الاقتصاد نظماً حكيمة ، تقر الملكية الفردية وتحيطها بسياج من الحماية ، وتذلل أمام الفرد سبل التملك والحصول على المال ﴿ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ﴾ (الملك:15) وشجع الإسلام على العمل ، وفسح المجال أمام المنافسة الشريفة ، وبذلك يتحقق للناس تكافؤ الفرص ، ولكن من جهة أخرى فإن الضوابط الاقتصادية في الإسلام تكبح رأس المال وتجرده من وسائل السيطرة والنفوذ بدون أن تعوقه عن القيام بوظيفته ، وتعمل على استقرار التوازن الاقتصادي وإذابة الفوارق بين الطبقات ، وتحول دون تضخم الثروات . وتقوم العلاقات الاقتصادية في الإسلام بين الناس على دعائم متينة من التكافل والتعاون والتواصي بالبر والإحسان ، وتضع أمثل نظام للضمان الاجتماعي ( سليم ، 1985) .
ومن مظاهر الضبط في الإسلام النهي عن قول الزور واتهام الآخر ظلماً ،ويتضح ذلك في قوله تعالى : ﴿ ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم بها بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً ﴾ (النساء:112) ، وأمر بالعدل في جميع الأحوال ، فبالعدل يستقر المجتمع وينتشر الأمان : ﴿ يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً ﴾ (النساء:135) ونلاحظ في كل مرة مخاطبة الإسلام للنفس والضمير الإنساني حيث يتذكر الإنسان رقابة الله في كل ما يقوم به (الأخرس ، 1997) .
وهكذا يتضح ضبط الإسلام للمعاملات بين الناس وخاصة ما يتعلق منها بالكليات الخمس والتي حرص الإسلام على حفظها ، وضمن لها حقوقها ، وتتمثل هذه الكليات في : حفظ الدين ، والنفس ، والعرض ، والعقل ، والمال . وسوف نتعرض لهذه الكليات وحفظها بشيء من التفصيل عند حديثنا عن ضبط العقوبات في الإسلام .
3- الآداب والأخلاق :
اهتم الإسلام بالمجتمع والتكافل الاجتماعي ، فنهى عن البغيضة والظلم والعدوان بين المسلمين ، ووضع لذلك ضوابط عديدة . وقبل كل ذلك شدد على الأخوة الإسلامية التي من خلالها ينبع كل فعل سليم ، وكل خلق كريم ﴿ إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم ﴾ (الحجرات:10) ورسم الإسلام الإطار العام لطبيعة العلاقة بين المؤمنين بقوله تعالى:﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ﴾ (التوبة:71) .
ويدعو الإسلام إلى مكارم الأخلاق وحسن التعامل مع الآخرين كما بلغ النبي الكريم " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ويضع لذلك ضوابط كثيرة ، والقرآن مليء بمثل تلك الضوابط الاجتماعية ، نذكر منها على سبيل المثال :
في آداب الزيارة : ﴿ يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غر بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ﴾ (النور:27) . وفي آداب المجالس : ﴿ يأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ﴾ (المجادلة:11) .
وقد بلغ من حرص الله على عبده المؤمن أن حماه من التعرض لأي أذى ولو بمجرد الكلام أو الإهانة أو السخرية أو الغيبة والنميمة والتنابز بالألقاب ، كما نهى عن ظن السوء بالمؤمن والتجسس وتتبع عوراته ويتضح ذلك من قوله تعالى : ﴿ يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ، يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن سوء ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ﴾ (الحجرات:11،12) ( الأخرس ،1997) .
ونلاحظ التركيز على روابط الإيمان والأخوة عند الحديث في القرآن عن الآداب والمعاملات بين المؤمنين ، مما يؤكد حرص الإسلام على مخاطبة المشاعر وتكوين الضمير ومراقبة النفس وضبطها ذاتياً قبل أن تضبط خارجياً .
وكما دعا الإسلام إلى السمو بالآداب الإنسانية ، دعا كذلك إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة من كرم وحلم وعفو وغيرها : ﴿ الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ﴾ (آل عمران:134) ، ونبذ الصفات المقيتة التي تؤدي إلى النفاق من كذب وغدر وخيانة وخلف للوعد فقد ذكر الرسول الكريم صفات المنافق : " أربع من كن فيه كان منافقاً ، ومن كان فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا أؤتمن خان " .
والحديث عن ضوابط الأخلاق والآداب في الإسلام لا يمل ولا ينقطع ، فالإسلام سعى إلى تكوين الشخصية الصالحة الكاملة المتكاملة ، الإنسان المسلم المتصف بفضائل الأخلاق ، المبتعد عن رذائل الصفات ، المعتدل في سلوكه ، المؤهل لدعوة الناس في كل زمان ومكان إلى الحق والفلاح ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ﴾ (البقرة:143) .
4- العقوبات :
يستخدم المجتمع لحماية نفسه من الجريمة نوعين من الضوابط : المنع والردع ، وقد أقر الإسلام هاتين الوسيلتين واستخدمهما ، ووسيلة المنع تمنع المجرم من الاعتداء ، فهي وسيلة حماية للمجرم والمجتمع على السواء ، فلا يصبح المعتدي مجرماً ، ولا ينال المجتمع اعتداءً . ويتضح اهتمام الإسلام بهذه الوسيلة والتركيز على المنع عن طريق تكوين الضمير المسلم الواعي السليم ( كما سبق أن بينا ) . أما وسيلة الردع فيلجأ إليها الإسلام مع أصحاب النفوس المريضة والضمائر المتبلدة ، وهنا جعل الإسلام العقوبات المتنوعة رادعة لأولئك النوع من البشر ( حسنين ، 1394هـ) ، فالإسلام يستخدم أسلوب الترغيب والترهيب معاً ، فلا يركز على الترغيب وحده لأن ذلك قد يؤدي إلى سيطرة الأمل في رحمة الله فيدعوها إلى التواكل والتهاون ويفضي بها إلى الأمن من مكر الله ، بينما الترهيب وحده قد يؤدي إلى طغيان الرهبة على النفس فتيأس من روح الله مما يفضي إلى القنوط من رحمة الله ، لذا يسلك الإسلام مسلكاً وسطاً ( إسماعيل ، 1416هـ) .
وتصنف العقوبات في الإسلام إلى ثلاثة أنواع :
1- الحدود : وتشمل أفعالاً محرمة شرعاً بما فيها تحديد نوع وكم العقوبة المقررة لكل منها على حدة صراحة وتفصيلاً في القرآن والسنة . ومنها : حد الزنا ، والسرقة ، والردة .
2- التعازير : وتشمل الجرائم التي ترك أمر تحديد نوع وكم عقوبتها المقررة بناءً على رأي أولياء أمور المؤمنين طبقاً لمتطلبات المصلحة واعتباراً للتغير الزماني والمكاني .
3- القصاص : ويشمل الجرائم التي تتعلق بالإصابات البدنية أو الاعتداءات على الأرواح والأعضاء ، وهنا لا يتطلب الأمر أن تتطابق عقوبة الحد مع نوع الضرر المادي فقط بل قد تتجاوزه إلى آثاره المعنوية أيضاً ﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ﴾ (المائدة:45) ( الأخرس ، 1997) .
والحدود هي حق خالص لله ، ولا يسمى القصاص حداً لأنه حق للعبد ، كما لا يسمى التعزير حداً لأنه مقدر من ولي الأمر وليس من الله تعالى ( حسنين ، 1394هـ) .
والعقوبة في الإسلام مرتبطة بصياغة الحقوق الإنسانية العامة والمعروفة بالكليات أو الضروريات الخمس التي أمرنا بحفظها ، وهي الدين ، والنفس ، والعرض ، والعقل ، والمال .
ويتمثل جزاء الاعتداء على الدين في قوله تعالى : ﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ (المائدة:33) .
كما يتمثل جزاء الاعتداء على النفس في قوله : ﴿ يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ (البقرة:178) ، ومن الضوابط الإسلامية أنه لا يجوز لأهل القتيل الثأر بأيديهم حتى لا ينتشر القتل ، بل عليهم الالتجاء إلى ولي الأمر كي يقتـص لهم من القـاتل وتعهد الله بنصره ﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً ﴾ (الإسراء:33) .
وجزاء الاعتداء على العرض بالزنا : ﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة﴾ (النور:2) ، وجزاء الاعتداء على العرض بالقذف : ﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ﴾ (النور:3) .
والاعتداء على العقل يكون بإذهابه عن طريق شرب الخمر والمسكرات ، وشارب الخمر جزاؤه تعزيراً ثمانون جلدة ، ويقول الله في تحريم الخمر : ﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ﴾ (المائدة:90) .
أما الاعتداء على المال فيتمثل الجزاء فيه بقوله تعالى : ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله ﴾ (المائدة:38) .
" ويقرر الإسلام مبدأ التشهير بالعقوبة ﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ﴾ (النور:2) والغرض من المشاهدة هو التشهير بالمذنب من جهة وضرب المثل للغير من جهة أخرى ، وحيث أن الإنسان حريص دائماً على كرامته واحترامه بين الناس ، لذلك فإنه يبتعد عن الوقوع في الخطأ الذي يعرضه للعقوبة والتشهير به " ( الدباغ ، 1979 ، ص98) .
ومما سبق نرى أن العقوبة في الإسلام تحرص كل الحرص على أمن الجماعة ، فهي جزاء يرد به المجتمع على جريمته . والجريمة هي عدوان على حق المجتمع في الأمن والسلامة ، وعدوان على المجني عليه بحرمانه من حقه في الحياة أو الحرية أو التملك ، وهي أخيراً عدوان على نسيج العلاقة التي تربط الأفراد فيما بينهم ( الأخرس ، 1997) .
ثالثاً : الإسلام منهج اجتماعي متكامل
يعتبر الدين الإسلامي منهجاً في الحياة تتبعه كل جماعة ويرتضيه كل مجتمع ، فهو يهذب النفوس الإنسانية ، ويوجه الحياة وجهة الحق والخير كما أنه ضرورة من ضرورات الإنسانية ، لا تغني عنه فكرة عقلية ولا تنظيم وضعي فقد اشتمل القرآن على الأصول العامة والقواعد الكلية كضوابط منظمة لشئون المجتمع ، وهذه الأصول والقواعد ثابتة لا تختلف باختلاف المكان والزمان ، أما التفصيلات الجزئية والتطبيقات العملية ( أساليب تطبيق هذه القواعد ) هي أشياء نسبية . لذا فالتشريع الإسلامي يتلاءم دائماً مع ظروف البيئة الاجتماعية لما يتميز من مرونة وقابلية للتطور والتوافق ( سليم ، 1985) .
وإذا كان الالتزام الديني يحقق وظيفة النظام والضبط الاجتماعي ، فليس معنى هذا أنه عنصر أو سلاح تستخدمه الطبقة الحاكمة لإخضاع المحكومين في كل زمان ومكان ، فالدين الإسلامي الحنيف يحقق وظيفة الضبط والنظام والعدالة والمساواة ، ويقيم مجتمعاً متكاملاً متكافلاً من خلال معايير ومبادئ يلتزم بها الحاكم والمحكوم معاً في اتساق معجز( السمالوطي ج2 ، 1981) .
ومنذ العصور الأولى للإسلام كانت السلطة الدينية والمدنية تتمثل في شخص واحد هو أمير المؤمنين ، فهو إمامهم وحاكمهم العادل والمسئول عن مصالحهم الدينية والدنيوية ، والحكم والإمارة في الإسلام هي تكليف وليس تشريف ، فالحاكم يقوم بدور كبير في تصريف شئون الرعية والرعاية على مصالحهم ، ومن ذلك المحافظة على الضوابط في المجتمع الإسلامي . ويبرز ذلك في وصف الحسن البصري للإمام العادل عندما طلب منه ذلك عمر بن عبد العزيز ، فكان مما ذكره له : « الإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده ، يسمع كلام الله ويسمعهم ، وينظر إلى الله ويريهم ، وينقاد إلى الله ويقودهم ، واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزع بها عن الخبائث والفواحش ، فكيف إذا أتاها من يليها ، وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده ، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم » ( مرسي ، 1986) .
" فالإسلام فكرة جامعة ، فهو دين ودولة ، دنيا وآخرة ، حكم وسياسة ، اقتصاد واجتماع ، الأمر فيه شورى ، والإمامة العظمى بيعة واختيار ، والمسلمون أخوة متساوون " ( سليم ، 1985 ، ص151) .
ويتميز الضبط الاجتماعي في الإسلام بخصائص تميزه عن غيره من الضوابط ، فالتشريع الإسلامي يستمد سلطته من الله سبحانه ، ويعتمد في ضوابطه على وازع الضمير الذي يعمل كموجه للإنسان في تصرفاته ، فيكون الضمير على يقظة في جميع الأوقات بأنه مراقب إلهياً في السر والعلن . فالضمير الحي خير عاصم من الزلل وقوة كبيرة لحفز الإنسان على العمل ، وتربية ضمير الإنسان التي حرص عليها الإسلام هي تربية لإرادته بحيث يصبح متحكماً في جميع أعماله وليس عبداً لنزواته وشهواته ( السالم ، 2000) . والإيمان تربية ذاتية ، تبدأ من تغيير الإنسان لذاته وتنتهي إلى أفراد المجتمع عامة ، فالتغير يبدأ من سلوك الإنسان ، والنفس الإنسانية قاعدة التغيير ومحوره ، وهذا هو السر وراء المكانة العظيمة للعقيدة في الإسلام ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ (الرعد:11) . ومن تربية الضمير قوله لمن جاءه سائلاً عن تعريف البر والإثم : " استفت نفسك ، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك " .
" كل هذه المبادئ الإسلامية تنبئ عن متانة البناء الاجتماعي وقوة أركانه وصلاحيته للرجوع إليه والاحتكام له في كل زمان ومكان بين جميع الناس " ( سليم ، 1985 ، ص159) .
شمول الضوابط الإسلامية وقصور الضوابط الوضعية :
يدعي أعداء الإسلام أن في تطبيق الحدود قسوة لا تتفق مع حقوق الإنسان ، ولا مع التطور الحضاري في هذا الزمان ، وهم ينادون باستبدال تلك الحدود بقوانين وضعية بحجة أن الحدود وضعت لزمان غير زماننا ،ولكننا نرد بقوله تعالى : ﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ﴾ (المائدة:49) .
فالله أنزل الشريعة الإسلامية لتلائم كل زمان ومكان ، وحدود الله التي فرضها إنما تناسب طبيعة النفوس الضعيفة التي جبلت على الخوف من العقوبة الحاضرة الظاهرة بشكل أشد وأردع من الخوف من عقوبة الآخرة ، وعليه فإن الأثر الاجتماعي للحدود لا يقف عند مرتكب الجريمة وحده وإنما يتعداه إلى غيره ، فلو طبق الحد على زانٍ أو سارق أو شارب خمر جهاراً أمام الناس في مجتمع تنتشر فيه هذه الآثام ، كان في ذلك أكبر وازع وأقوى عامل من عوامل الحد من تلك المشكلات الاجتماعية الأخلاقية ، والبعد عن ارتكابها والتفكير ألف مرة قبل التردي في مستنقعاتها . وهكذا تبرز حكمة الإسلام ونظرته العميقة للمجتمع ، حيث جعل الحدود جزاءً رادعاً لجرائم خطيرة تمس أمن المجتمع ، وجعل القصاص مساواة تامة بين الجرم والعقوبة ، أما التعزير فقد جعله أمراً متروكاً لاجتهاد العالم المسلم فيراعي طبيعة المجرم والجريمة والظروف المحيطة . ويكفي قوله : " ادرءوا الحدود بالشبهات " للرد على كل لسان يعادي الإسلام وشريعته ، فهذا الحديث يدل على السماحة المتأصلة في الشريعة الإسلامية ، والتسامح والتعاطف البالغ مع أبنائها ( إسماعيل ، 1416هـ) .
إن الإسلام حين وضع ضوابط اجتماعية ، لم يهمل احتياجات الفرد وخصائص طبيعته البشرية ، فجاءت الضوابط الإسلامية مرنة ملائمة لكل عصر وكل حالة إنسانية ، ولنأخذ مثلاً ضوابط الزواج والطلاق في الإسلام :
دعا الإسلام إلى الزواج وتكوين أسرة لما في ذلك من دعم للمجتمع المسلم وحفظ لكيانه ، ولما للزواج من فوائد عديدة للفرد والجماعة ﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ (الروم:21) . وأباح الإسلام للرجل الزواج بأكثر من امرأة إذا دعت الحاجة لذلك بشرط العدل بين الزوجات ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ﴾ (النساء:3) وأبغض الإسلام الطلاق ونفر المسلمين منه ودعا إلى الإصلاح بين الزوجين بشتى الوسائل ، ولكنه مع ذلك لم يحرمه ، بل يصبح الطلاق ضرورة إذا تأزمت الحياة الزوجية واستحالت العشرة بين الزوجين ، حينئذٍ يكون الطلاق حلاً مطلوباً ومخرجاً من حياة لا تطاق ، مع الاحتفاظ بحقوق الزوجة وحسن المعاملة حتى بعد الطلاق ﴿ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ﴾ (البقرة:299) . وهنا تظهر سماحة الإسلام في عدم الضغط على أفراده ، بل مراعاة ظروفهم إلى أقصى حد ، كما يظهر الفرق بين الإسلام والقوانين الوضعية الغربية التي تمنع الزواج بأكثر من واحدة ، كما تمنع الطلاق بين الزوجين بأي حال من الأحوال ، وبنظرة سريعة إلى مظاهر الانحراف والشذوذ وسوء الأخلاق بين الزوجين وانتشار الخيانة الزوجية والتفكك الأسري القائم في الأسر الغربية ، يتضح لنا مدى تسامح الإسلام ومرونة ضوابطه الاجتماعية .
إن الضوابط الاجتماعية والأخلاقية والدينية في الإسلام صادرة من نبع واحد أصيل ، ومصدر ثابت لا يتغير ولا يعرف الزلل أو الخطأ ، ومن ثم لا يقع المسلم بين ضغوط الاختلافات التي تقوم في المجتمعات الأخرى ، والتي تتعارض فيها الفضائل الاجتماعية الضابطة لسلوك أفرادها ، فالمؤسسات الاجتماعية تفرض ضوابط ، والمؤسسات الدينية تفرض ضوابط أخرى ، وهناك من ينادي بحرية الفرد في أخلاقياته وعدم الخضوع لأي ضوابط إلا ما يراه هو مناسباً . وهنا أصبح الناس منقسمين ، ويعيش الفرد فيهم بأكثر من شخصية ، ولذا شاع عندهم الأمراض النفسية كالفصام وعمليات الانتحار . ولنضرب مثلاً على حالة التناقض التي يعيشون فيها : في بريطانيا هناك أستاذ فقه القانون الأستاذ هارت Hart ينادي في كتابه "القانون والحرية والفضيلة " بضرورة الحفاظ على حق الفرد أن يفعل ما يريد ما دام عمله لا يترتب عليه ضرراً للآخرين ولو كان فعله جريمة أخلاقية ، بينما على الطرف الآخر ينادي كبير قضاة بريطانيا لورد دفلن Devlin في كتابه " ضرورة فرض الفضيلة على الناس " بضرورة فرض الفضائل على الناس أرادوا أو لم يريدوا . وثار الجدل حول هذه الآراء ، ولم يزل ثائراً ، وسيظل كذلك ما دام القانون المنظم للمجتمع من وضع الناس لا من وضع العلي العظيم خالق الناس ( حسنين ، 1394هـ) .
ويشهد المنصفون منهم على قصور قوانينهم وكمال إسلامنا حيث يتناول كتاب (القادة الدينيين Religions Leaders ) لمؤلفيه "هنري ودانالي توماس" ثلاثة أنبياء : موسى وعيسى ومحمد (عليهم الصلاة والسلام) وغيرهم من الأئمة والمصلحين في كافة الديانات والمذاهب . فذكر عند حديثه عن الرسول عليه الصلاة والسلام : « إن القرآن واضح في منهج السلوك الذي يتطلبه من المسلم فإن واجبه الأول أن يرتفع غاية الارتفاع . وقد عمل على إدماج النزاع بين الأفراد والقبائل في أخوة إسلامية ، وتوسل إلى تحقيق هذه الأخوة بتعليم كل رجل وكل امرأة وكل طفل منهجه الكامل من السلوك المستقيم ، فجاء بتحريم الخمر والميسر والخداع والأثرة والقسوة على أي وجه من الوجوه ، وألهم المسلمين أن يفرقوا بين حدود العبادة ، وحدود الأخلاق والنيات ، فليس البر أن يولوا وجوههم قبل المشرق والمغرب ، وإنما البر في الإيمان والإحسان ، وعلى المسلم أن يدفع عن نفسه ، وأن يقاتل من يقاتلـه ، ولكنه لا يعتـدي لأن الله لا يحب المعتدين » ( صبح ، د.ت ) .
" إن الإسلام هو الكفيل بتحقيق أمل الإنسان في الأمن والرخاء والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص والمشاركة الواعية البناءة في صنع واقعه وتنمية مجتمعه اقتصادياً واجتماعياً، وتخليصه من كل ألوان القلق والصراع والحقد والزيف الذي تعاني منه المجتمعات غير الإسلامية " ( السمالوطي ، ج2 ، 1981 ، ص154) . وبذلك تقر الدكتورة لورا فاجليزي في كتابها ( تفسير الإسلام ) : « بينما كان الناس يعانون قبلاً من الفوارق الاجتماعية ، أعلن الإسلام المساواة بين البشر ، ولم يصبح للمسلم امتياز على مسلم بأصله ، أو بأي عامل آخر لا يتعلق بشخصه ، وإنما الميزة خشية الله ، والعمل الصالح ، والقيم الخلقية » ( صبح ، د.ت ) .
إن الإسلام هو المصدر الأصيل لجميع الضوابط الاجتماعية ، وفيه تنبثق جميع آدابنا وأخلاقنا ، وعن طريقه نكتسب سلوكياتنا ، فالإسلام لم يترك صغيرة ولا كبيرة في حياة المجتمع إلا بينها ووضحها ورسم طريقها وضوابطها ، وحيث يكون الإسلام هو أساس القيم ومصدر التشريع ، وتكون تعاليمه هي بذاتها قواعد التربية التي ينبثق منها ما يعرف بالرأي العام والعرف والتقاليد ، هذا المجتمع لا يحتاج إلى تعدد مصادر الضبط الاجتماعي ، فالمصدر واحد حق هو شرعة الإسلام ، ويمكن اعتبار المصادر الأخرى هي مظاهر تتعدد تعدد ألوان الطيف الذي يصدر من نور واحد أصيل ( حسنين ، 1394هـ) .
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات ..
تعرضت في بحثي إلى مفهوم الضبط الاجتماعي وضرورته ونظرياته ، وأساليبه المستخدمة قديماً وحديثاً ، كما تطرقت إلى دور التربية في الضبط الاجتماعي ، ثم أفردت حديثي عن الضبط الاجتماعي في الإسلام من خلال إبراز دور الدين عامة في ضبط المجتمع ودور الدين الإسلامي بشكل خاص في ضبط المجتمع المسلم ، والذي ظهر أنه يتمثل في الاهتمام بجميع جوانب الفرد والجماعة .
ومن خلال الاستعراض السابق يتضح لنا تهميش الدين في العالم الغربي ، وعلى الرغم من اهتمم القلة من علماء الغرب بالدين ، إلا أن الغالبية منهم أهمل دوره في الضبط الاجتماعي ، ويظهر ذلك في آرائهم ونظرياتهم ، فقد احتل الدين كوسيلة ضابطة عند روس المركز الخامس ، بينما جاء في المرتبة الثانية بعد القانون عند جيرفيتش ، في حين أن كلاً من لابيير وبارسونز لم يذكراه أو يتعرضا له أصلاً كوسيلة من وسائل الضبط الاجتماعي واقتصرت وسائل الضبط الاجتماعي عند سمنر على الأعراف والتقاليد . كما ظهر انفصال كبير بين الدين والقانون ، واحتلت القوانين الوضعية مكان الأديان السماوية في ضبط المجتمع فنتج عن ذلك تخبط دائم وفساد مستمر في المجتمع الغربي . فالقوانين الوضعية لا تنبع من ذات الفرد بل هي من سلطة خارجية ، تستعبدها الأهواء والمصالح الشخصية ، لذا فالفرد لا ينقاد لها بإرادته بل مجبراً ، بينما الضوابط في الإسلام تركز على ذات الفرد وتعمل على تزكيته وتنقيته وتنمية ضميره كي يصبح ضابطاً لنفسه قبل أن يضبطه المجتمع .
الغرب يبنون النظريات ويتعبون في وضع القوانين والأنظمة لتشمل جوانب حياتهم ، وينتج عن ذلك تعارض بين الآراء والأهواء والرغبات ، وتنافر بين الأجيال وتمرد على القوانين، ولذا فالضوابط غير مستقرة ، بل تتعرض للتغير دائماً ، ونسمع عن الإضراب والمظاهرات المختلفة نتيجة الاعتراض ، كل هذا لأن القوانين وضعية ، والضوابط بشرية لا تنجو من الخلل والزلل . بينما نحن وفر لنا ديننا الراحة من العناء والتعب ، فلا ضوابط نضعها ، ولا قوانين نبتكرها، كلها من عند رب العالمين ، الخبير بعباده، العالم بشئونهم أكثر منهم ، فنحن لا نحتاج إلى خلق نظام لحياتنا ، فالإسلام نظامنا وحياتنا ، فهو الدين الكامل ، ومنهج الحياة الشامل ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً﴾ (المائدة:3)
المراجع
أولاً / المراجع العربية :
1. ابن منظور ، أبو الفضل جمال الدين (ت711هـ ، ط1994م) : لسان العرب . المجلد السابع ، بيروت ، دار صادر .
2. أبو زيد ، محمود (1980) : الشائعات والضبط الاجتماعي . الاسكندرية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
3. الأخرس ، محمد صفوح (1997) : نموذج لاستراتيجية الضبط الاجتماعي في الدول العربية . الرياض ، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية .
4. إسماعيل ، زكي محمد (1416هـ) : الحدود الشرعية وآثارها الاجتماعية . الأمن ، العدد43 ، (56-59) .
5. بدران ، شبل (1999) : التربية والمجتمع . الاسكندرية ، دار المعرفة الجامعية .
6. بنكس ، أولفا (1988) : اجتماعيات التربية . ترجمة محمد علي المرصفي ، د.ن .
7. جابر ، سامية محمد (1984) : القانون والضوابط الاجتماعية . الاسكندرية ، دار المعرفة الجامعية .
8. الحامد ، محمد بن معجب . الرومي ، نايف بن هشال (2001) : الأسرة والضبط الاجتماعي . الرياض ، د.ن .
9. حسنين ، مصطفى محمد (1394هـ) : الضبط الاجتماعي في الإسلام . أضواء الشريعة ، العدد الخامس ، الرياض ، كلية الشريعة ، (201-208) .
10. الخريجي ، عبد الله (1979) : الضبط الاجتماعي . جدة ، دار الشروق .
11. الخشاب ، أحمد (د.ت) : الضبط والتنظيم الاجتماعي . القاهرة ، مكتبة القاهرة الحديثة .
12. الخطيب ، محمد شحات وآخرون (1995) : أصول التربية الإسلامية . الرياض ، دار الخريجي للنشر والتوزيع .
13. الدباغ ، عفاف (1979) : العقوبة في التربية الإسلامية . مجلة الخدمة الاجتماعية ، العدد الثاني ، الرياض ، (95-99) .
14. دياب ، فوزية (1980) : القيم والعادات الاجتماعية . بيروت ، دار النهضة العربية.
15. الرشدان ، عبد الله (1999) : علم اجتماع التربية . عمان ، دار الشروق .
16. الرفاعي ، أنور (1998) : النظم الإسلامية . دمشق ، دار الفكر .
17. السالم ، خالد بن عبد الرحمن (2000) : الضبط الاجتماعي والتماسك الأسري . الرياض ، د.ن .
18. سليم ، سلوى (1985) : الإسلام والضبط الاجتماعي . القاهرة ، دار التوفيق النموذجية .
19. السمالوطي ، نبيل محمد توفيق (1981) : الدين والبناء الاجتماعي . الجزء الأول ، جدة ، دار الشروق .
20. السمالوطي ، نبيل محمد توفيق (1981) : الدين والبناء الاجتماعي . الجزء الثاني ، جدة ، دار الشروق .
21. السيد ، سميرة أحمد (1997) : مصطلحات علم الاجتماع . الرياض ، مكتبة الشقري.
22. شطارة ، أسعد سليم (1995) : أنسنة النظم الاجتماعية ( تصور لعالم أفضل ) . بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر .
23 . قوقل
24. معهد الامارات التعليمي
مسروقه من محل
تسلمين الغلا
بارك الله فيج
تسلمين الغلا
الله يسلم غاليج
مشكووره على طله غاويه خيتوو
لاهنتي
ان شاء الله في دراسه