تنطوي التنمية في أبلغ صورها على إحداث نوع من التغيير في المجتمع الذي تتوجه إليه ، و بالطبع فهذا التغيير من الممكن أن يكون ماديا يسعى إلى رفع المستوى الاقتصادي و التكنولوجي لذات المجتمع ، و قد يكون معنويا يستهدف تغيير اتجاهات الناس و تقاليدهم و ميولهم [2]، فالأمر يتعلق إذن بعمليات هادفة محدودة في الزمان و المكان تراهن على التغيير الإيجابي طبعا ، إن التنمية في مختلف أشكالها و تصوراتها تستهدف أبعادا مفتوحة على ما هو لوجيستيكي أو ما هو معنوي تقود ختاما نحو تغيير السياسات و الممارسات و المواقف .
لكن تعريف التنمية يظل مرتبطا دوما بالخلفية العلمية و الاستراتيجيات النظرية ، فعلماء الاقتصاد مثلا يعرفونها بأنها الزيادة السريعة في مستوى الإنتاج الاقتصادي عبر الرفع من مؤشرات الناتج الداخلي الخام ، في حين يلح علماء الاجتماع على أنها تغيير اجتماعي يستهدف الممارسات و المواقف بشكل أساس ، و هذا ما يسير على دربه المتخصصون في التربية السكانية . إنه لا يوجد تعريف موحد للتنمية ، إنها ترتبط بالتصنيع في كثير من الدول ، و ترمز إلى تحقيق الاستقلال في أخرى
، بل يذهب الساسة مثلا وصفها بعملية تمدين تتضمن إقامة المؤسسات الاجتماعية و السياسية ، بينما يميل آل الاقتصاد إلى معادلة التنمية بالنمو الاقتصادي [3]، و هذا الاختلاف الذي يبصم مفهوم التنمية هو الذي سيدفع بعدئذ إلى عمليه استدماج مفاهيمي تلح على أن التنمية هي كل متداخل و منسجم ، و أنه تكون ناجعة و فعالة عندما تتوجه في تعاطيها مع الأسئلة المجتمعية إلى كل الفعاليات المعبرة عن الإنسان و المجتمع ، عبر مختلف النواحي الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و الثقافية والبيئية ….ذلك أن الاقتصار على البعد الاقتصادي في تعريف التنمية يظل قاصرا عن تقديم المعنى المحتمل للتنمية ، و لهذا فالتنمية لن تكون غير تحسين لشروط الحياة بتغييرها في الاتجاه الذي يكرس الرفاه المجتمعي . و لكي نلقي مزيدا من الضوء على التنمية سنحاول في مستوى آخر الاقتراب أكثر من مفهومي التنمية المستدامة و التنمية المحلية .
التنمية المستدامة :
يعود الفضل في نحت هذا المفهوم و تأصيله نظريا إلى كل من الباحث الباكستاني محبوب الحق و الباحث الهندي أمارتايا سن و ذلك خلال فترة عملهما في إطار البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. فالتنمية المستدامة بالنسبة إليهما هي تنمية اقتصادية-اجتماعية، لا اقتصادية فحسب، تجعل الإنسان منطلقها وغايتها، وتتعامل مع الأبعاد البشرية أو الاجتماعية للتنمية باعتبارها العنصر المهيمن، وتنظر للطاقات المادية باعتبارها شرطاً من شروط تحقيق هذه التنمية.[4] كما أن الوزير الأول النرويجي كرو هارلم برونطلاند لعب دورا مهما في ترسيخ هذا المفهوم و تحديد ملامحه الكبرى ، ففي سنة 1987 سيصدر تقرير عن الأمم المتحدة سيصير بعدا حاملا لاسم برونطلاند ، يلح على أن التنمية يفترض فيها تلبية الحاجيات الملحة الحالية دون التفريط في الحاجيات المستقبلية . و هذا كله يفضي بنا إلى التأكيد على أن التنمية المستدامة تتمثل التنمية استنادا إلى منطق التوزيع العادل للثروات و تحسين الخدمات و تجذير مناخ الحريات و الحقوق ، و ذلك في تواز تام مع تطوير البنيات و التجهيزات دونما إضرار بالمعطيات و الموارد الطبيعية و البيئية ، إنها بهذه الصيغة تنمية موجهة لفائدة المجتمع المحلي مع الأخذ بعين الاعتبار حاجيات و حقوق الأجيال القادمة و هذا ما يبصمها بطابع الاستدامة . و فيما يلي تعريفات أخرى أعطيت للتنمية المستدامة :
§ "التنمية التى تلبي احتياجات الجيل الحالي دون الإضرار بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة" مؤتمر الأمم المتحدة المعنى بالبيئة والتنمية لعام 1987
§ "إدارة قاعدة الموارد الطبيعية وصيانتها، وتوجيه التغيرات التكنولوجية والمؤسسية بطريقة تضمن تلبية الاحتياجات البشرية للأجيال الحالية والمقبلة بصورة مستمرة. فهذه التنمية المستدامة التي تحافظ على (الأراضي) والمياه والنبات والموارد الوراثية (الحيوانية) لا تحدث تدهورا في البيئة وملائمة من الناحية التكنولوجية وسليمة من الناحية الاقتصادية ومقبولة من الناحية الاجتماعية" (مجلس منظمة الأغذية والزراعة عام 1988).
§ "استخدام موارد المجتمع وصيانتها وتعزيزها حتى يمكن المحافظة على العمليات الايكولوجية التي تعتمد عليها الحياة وحتى يمكن النهوض بنوعية الحياة الشاملة الآن وفي المستقبل" (مجلس حكومات استراليا عام 1992).
التنمية المحلية :
ظهر هذا المفهوم في بحر الستينيات على إثر النقاشات التي تعالت حول تهيئة و إعداد التراب ، و ذلك من أجل الاختلالات بين الجهات ، و لقد كان العالم القروي الحقل الأول لتطبيق المفهوم ، لكنه اليوم تجاوز حدود القرية إلى المدن خصوصا في الأحياء .
والتنمية المحلية عملية يمكن بواسطتها تحقيق التعاون الفعال بين المجهود الشعبي والحكومي للارتقاء بمستوى التجمعات والوحدات المحلية اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا من منظور تحسين نوعية الحياة لسكان تلك التجمعات المحلية في أي مستوى من مستويات الإدارة المحلية في منظومة شاملة ومتكاملة[5] .
إنها عملية تغيير تتم بشكل قاعدي من الأسفل تعطي الأسبقية لحاجيات المجتمع المحلي ، و تتأسس على المشاركة الفاعلة لمختلف الموارد المحلية و كل ذلك في سبيل الوصول إلى الرفع من مستويات العيش و الاندماج و الشراكة و الحركية .
ختاما
من خلال قراءة فصل بليس في مفهوم التنمية ، و عبر هذه الجولة القصيرة في رحاب مفهومي التنمية المستدامة و التنمية المحلية مرورا بمحاورة المفهوم و اقتفاء أثره التاريخي ، من خلال ذلك كله يمكن القول بأن التنمية و بالرغم من كل التطور الذي عرفته من حيث المناهج و المباحث العلمية و المقاربات الممارساتية ، ستظل مفهوما بلا نموذج ، إنها تؤشر على الكثير من الآليات و التدخلات ، لكنها في نفس الآن لا تؤشر على أية وصفة جاهزة لبلوغ المستوى المطلوب للتنمية ، فلكل مجتمع تنميته المناسبة له و لإمكانياته .
و لهذا تبدو التنمية عملية تغيير معقدة غير محسومة النتائج في مطلق الأحوال ، و لعل هذا ما يجعلها مؤجلة التحقق واقعيا ، لأنها لا تفترض قرارا صادرا عن السياسي أو الخبير ، و إنما تتطلب كثيرا من الشروط المجتمعية المتداخلة ، فهل تستحيل التنمية وفقا لهذا الفهم ؟ و يصير بالتالي كل ما يثار بصددها من مقاربات و تجارب مجرد وصفات غير مجدية للخروج من متاهات التخلف و التبعية ؟
الهوامش:
فريديريك هاريسون ، الموارد البشرية و التنمية ، ترجمة سعيد عبد العزيز ، معهد التخطيط القومي ، القاهرة ، 1984.ص.68.
[4] أنظر موقع الإنترنيت الخاص ببرنامج الأمم المتحدة بالأردن.
[5] جمعي عماري ، مساهمة الجماعات المحلية في تشجيع الاستثمار في مجال الصناعة الزراعية الغذائية، ورقة مقدمة إلى الملتقى الدولي حول تسيير وتمويل.
الجماعات المحلية في ضوء التحولات الاقتصادية، الجزائر 26/27 أبريل 2024.
أتمنى أن ينال هذا البحث إعجابكم
اختكم "فتفوتة