منزلة العقل في الإسلام
——————————————————————————–
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الإسلام كرم العقل أيما تكريم، كرمه حين جعله مناط التكليف عند الإنسان،
والذي به فضله الله على كثير ممن خلق تفضيلا، وكرمه حين وجهه إلى النظر
والتفكير في النفس، والكون، والآفاق اتعاظاً واعتباراً، وتسخيراً لنعم الله واستفادة منها،
وكرمه حين وجهه إلى الإمساك من الولوج فيما لايحسنه،
ولايهتدي فيه إلى سبيل ما، رحمة به وإبقاء على قوته وجهده.
كما كرم الله الإنسان بالحواس لا لذاتها ولكن بقدر ما توصل صاحبها
إلى طريق الفهم والاهتداء والتقوى والصلاح فقال:
"ألم نجعل له عينين *ولسانًا وشفتين *وهديناه النجدين"سورة البلد 8-9-10.
وإذا لم تستطع الحواس أن ترتفع بالحقيقة الإنسانية في نفس الإنسان،
وتكون وسائل لتحصيل العلم والوصول إلى اليقين والهدى، والتحرر من ربقة الظلم،
فوجودها كعدمها سواء، بل إن الإنسان في هذه الحالة يكون أحط مكانة من البهائم؛
لأن البهائم تستخدم حواسها بأقصى طاقاتها حفاظًا على بقائها،
أما هو فقد عطل حواسه التي أنعم الله بها عليه لاستعمالها كصاحب رسالة كرمه الله
باستخلافه عنه في الأرض، وما قيمة العقل إذا ما عطلت طاقته عن الخير؟
وما قيمة العين إذا لم تبصر طريق الهدى؟ وما قيمة الأذ ن إذا لم تصغ لصوت الحق واليقين؟
قال تعالى:"وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ
بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا
أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ "سورة الأعراف 179
فقد عرفَ جمهور علماء الإسلام من المتكلمين والفقهاء العقل:
"إن العقل ملكة وغريزة، ونور وفهم، وبصيرة وهبها الله سبحانه وتعالى للإنسان،
ولذلك فهو ليس عضواً ولا حاسة من الحواس، أي أن وجوده في الأذهان لا الأعيان،
وهو المستوى الأعلى في الإدراك لما فوق الحواس".
ولأن القرآن الكريم قد استخدم مصطلح "القلب"للتعبير عن "العقل"،
كان اتجاه جمهور علماء الإسلام إلى أن العقل محله القلب، لا بمعنى العضلة الصنوبرية،
وإنما بمعنى "جوهر الإنسان"، مستدلين بالقرآن الكريم:
"أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو أذان يسمعون بها
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور "الحج 46.
إنه:"نور معنوي في باطن الإنسان، يبصر به القلبُ أي النفس الإنسانية المطلوب،
أي ما غاب عن الحواس بتأمله وتفكره بتوفيق الله تعالى بعد انتهاء إدراك الحواس،
ولهذا قيل:بداية العقول نهاية المحسوسات،
وهو نور في القلب يعرف الحق والباطل..
والمعقول هو ما تعقله بقلبك ، وهو نور الغريزة، مع التجارب يزيد، ويقوى بالعلم والحلم".
فالتعريف الإسلامي للعقل والعقلانية فِعْلُ التعقل منذ انبثاق النور القرآني،
الذي جعل العقل نوراً من أنوار الله، يزامل هذا الدين الحنيف،
ويمثل بالنسبة له أداة الفهم، وقاعدة التأسيس.
وبسبب هذا التأسيس الديني للعقل والعقلانية في الفلسفة الإسلامية والحضارة الإسلامية،
كانت مهمة العقلانية الإسلامية هي الدفاع عن الإيمان الإسلامي بالمنطق العقلاني
الداعم للوحي الإلهي والنقل الإسلامي، فشاعت في مصادر الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي عبارات، من مثل:
"ما عُرف الله إلا بالعقل ولا أطيع إلا بالعلم".
روى الوليد بن مسلم عن أنس بن مالك عن سمي
مولى أبي بكر عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"… ثم خلق العقل فقال الجبار :
ما خلقت خلقا أعجب إلي منك ،وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ،
ولأنقصنك فيمن أبغضت ،ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته ".
وخاطب الله تعالى الإنسان العاقل في كثير من الأيات نذكر منها:
1-خص الله أصحاب العقول بالمعرفة لمقاصد العبادة، والوقوف على بعض حكم التشريع،
فقال سبحانه بعد أن ذكر جملة أحكام الحج "واتقون يا أولي الألباب "البقرة 197.
وقال عقب ذكر أحكام القصاص:"ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقون" البقرة 179.
2-قصر سبحانه وتعالى الانتفاع بالذكر والموعظة على أصحاب العقول،
فقال عز وجل:"ومايذكر إلا أولوا الألباب "البقرة 269.
وقال عز وجل:"لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب "يوسف 111.
وقال عز وجل:"ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون "العنكبوت 35.
3-ذكر الله أصحاب العقول، وجمع لهم النظر في ملكوته، والتفكير في آلائه،
مع دوام ذكره ومراقبته وعبادته، قال تعالى:"إن في خلق السموات والأرض
واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب *الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً
وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض "
إلى قـوله عـز وجل:"إنك لاتخلف الميعاد "آل عمران 190-194.
4-ذ م الله عز وجل المقلدين لآبائهم، وذلك حين ألغوا عقولهم وتنكروا
لأحكامها رضاً بما كان يصنع الآباء والأجداد، قال عز وجل:
"وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه
آباءنآ أو لو كان آباؤهم لايعقلون شيئاً ولايهتدون *ومثل الذين كفروا
كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون "البقرة: 170-171.
5-حرم الإسلام الاعتداء على العقل بحيث يعطله عن إدراك منافعه.
فمثلاً:حرم على المسلم شرب المسكرات وكل مايفسد العقل، قال عز وجل:
"ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون "المائدة 90.
6-جعل الإسلام الدية كاملة في الاعتداء على العقل وتضييع منفعته
بضرب ونحوه، قال عبدالله بن الإمام أحمد:"سمعت أبي يقول:
في العقل دية، يعني إذا ضرب إنسان فذهب عقله "قال ابن قدامة:"لانعلم في هذا خلافاً ".
7-شدد الإسلام في النهي عن تعاطي ماتنكره العقول وتنفر منه،
كالتطير والتشاؤم بشهر صَفَر ونحوه، واعتقاد التأثير في العدوى والأنواء وغيرها،
وكذا حرم إتيان الكهان وغيرهم من أدعياء علم الغيب، وحرم تعليق التمائم وغيرها من الحروز.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لاعدوى ولاطيرة "رواه البخاري.
الطيرة:التشاؤم بالشيء.
وفي رواية عن جابر رضي الله عنه:"لاعدوى ولاغول ولاصفر "رواه مسلم.
غول:جنس من الجن والشياطين، كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس،
وتضلهم عن الطريق، فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم.
صفر:كانت العرب تزعم أن في البطن حية يقال لها الصفر تصيب الإنسان إذا جاع وتؤذيه، فأبطل الإسلام ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَاد ".
رواه أبوداود وابن ماجه، وصححه الحافظ العراقي، والنووي.
والمراد:النهي عن اعتقاد أن للنجوم في سيرها واجتماعها وتفرقها
تأثيراً على الحوادث الأرضية، وهو ما يسمى بعلم التأثير،
أما علم التسيير وهو الاستدلال عن طريق المشاهدة بسير النجوم على جهة القبلة ونحو ذلك فلا شيء فيه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً "رواه مسلم.
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا "
رواه أبوداود، وصححه السيوطي والألباني.
قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ ".
قوله صلى الله عليه وسلم:إن الرقى، جمع رقية، وهذه ليست على عمومها،
بل هي عام أريد به خاص، وهوالرقى بغير ما ورد به الشرع،
أما ما ورد به الشرع؛ فليست من الشرك، قال صلى الله عليه وسلم في الفاتحة:"وما يدريك أنها رقية".
لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يناقض بعضه بعضًا؛ فالرقى المشروعة التي ورد بها الشرع جائزة.
التمائم:شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين، وهي من الشرك؛ لأن الشارع لم يجعلها سببًا تتقى به العين.
التولة:ضرب من السحر يحبب المرأة إلى زوجها،
جعله من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يفعل خلاف ما قدر الله.
هذا مع أمر الشارع العبد أن يأخذ بالأسباب ويتوكل على خالق الأسباب،
كما قال صلى الله عليه وسلم:
"الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ،
احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ،
وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ:
قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَان " رواه مسلم.
والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب
العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية،
بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة،
وتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله،
أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه.
والإسلام يقرر للإنسان أن يفكر فيما شاء كما يشاء وهو آمن من التعرض
للعقاب على هذا التفكير، ولو فكر في إتيان أعمال تحرمها الشريعة،
والعلة في ذلك أن الشريعة لا تعاقب الإنسان على أحاديث نفسه،
ولا تؤاخذه على ما يفكر فيه من قول أو فعل محرم،
وإنما تؤاخذه على ما أتاه من قول أو فعل محرم،
قال تعالى:لا يكلف الله نفساًإلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما إكتسبت" سورة البقرة286
و قال صلى الله عليه وسلم:
"إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تتكلم".
مثال الكلام أن يسب المسلم أخاه المسلم قال صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".
هذه هي حرية الفكر والتفكير في الإسلام، ربطها الله سبحانه وتعالى بوجود الإنسان ذاته،
ودعاه القرآن إلى استعمال حقه في التفكير والتأمل مستخدمًا طاقاته العقلية ،
دون أن يعطلها بالتقليد الأعمى، أو يهدرها فيما لا ينفع ولا يفيد،
وكذلك كفل الإسلام للإنسان حرية الاعتقاد، وكان من قواعد الإسلام الراسخة
قاعدة "لا إكراه في الدين" و "لكم دينكم ولي ديني"
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فما عليه إلا البلاغ،
وسبيل هذا البلاغ هو الحكمة والموعظة الحسنة قال تعالى:
"وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ "سورة يونس 99 .
اللهم متعنا في عقولنا وإجعلها مُبصرة و متعنا في أبصارنا بالنظر إلى وجهك الكريم.
شكرا معلمة المستقبل تعبتك معي