تخطى إلى المحتوى

تقرير آليات التوازن في إدارة المال العام 2024.

  • بواسطة

آليات التوازن في إدارة المال العام
استخدمت الصفوة مجموعة آليات في هذا الصدد أهمها
:
أـ مسؤولية تحديد عطاء الخليفة وضوابطه:
إن المجتمع هو الذي يحدد للخليفة عطاءه، كما أن له حق التدخل في مراجعة ما يقرره الخليفة من مخصصات مالية لأمرائه، خاصة إذا تعارض التحديد مع متطلبات دور الدولة، تجاه المجتمع.
فالرعية، ممثلة في أهل الحل والعقد، هي التي فرضت للخلفاء بدءا بأبى بكر، العطاء بحيث يتفرغون لأمر المسلمين. فلقد فرضت الصفوة لأبى بكر في بيت المال قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا أوكسهم، وكسوة الشتاء والصيف، شريطة أن يعيد ما يبلى، ويأخذ غيره. وفرضوا لعمر عطاء لم يَكْفِهِ هو ومن يعولهم. فطلب الزيادة قائلاً: "زيدوني فإن لي عيالاً وقد شغلتموني عن التجارة فزادوه. وقال له على بهذه المناسبة: "لك من هذا المال ما يقيمك، ويصلح عيالك بالمعروف، وليس لك من هذا المال غيره".
ب ـ التمييز بين تعيين الحق واستيفاءه:
بعد فتح الشام والعراق، سأل عمر وجوه مسلمين عما يحل للوالي من هذا المال في ضوء الزيادة الهائلة في موارد الدولة، فقالوا: "أما لخاصته فقوته وقوت عياله، وكسوته وكسوتهم، لا وكس ولا شطط، وما يغطى حوائجه، وظهر لحجه وعمرته، ثم عليه أن يقسم بالسوية، ويعطى أهل البلاء قدر بلائهم".
ج ـ تقنين سلطة الخليفة في التصرف في المال العام:
يد الإمام غير مطلقة في المال والعام، فهو فيه بمنزلة الأجير. قال أبو بكر في مرض الموت: "إني ما أصبت من دنياكم شيئاً. ولقد أقمت نفسي في مال الله، وفئ المسلمين مقام الوصي في مال اليتيم، إن استغنى تعفف. وإن افتقر أكل المعروف".
وكان عمر يحلف على أيمان ثلاثة، ويقول: "والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا بأحق به من أحد. ووالله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب، إلا عبداً مملوكاً، ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام".
بل إن سلمان الفارسي أجاب على سؤال عمر له: "أتراني مستحقاً للقب أمير المؤمنين؟ قائلاً: "نعم إذا لم تستأثر على الناس بتمرة".
د ـ المسؤولية التضامنية:
قررت الصفوة مبدأ المسؤولية التضامنية، لكل جيل من الأمة، على صعيد الدولة والمجتمع معاً انطلاقاً من "فقه السفينة" الذي يعتبر "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها. فقال الذين هم أسفلها: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً فشربنا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا"
وتأسيساً على ذلك، أكدت الصفوة على حق المجتمع في مراقبة الدولة في التصرف في المال العام، إلى حد أن عمر بن الخطاب، وأبا ذر، لم يحبا أن يوصف المال العام بأنه "مال الله" وآثراً تسميته "مال المسلمين". فقال أبو ذر لمعاوية: "ما يحملك على أن تسمى مال المسلمين، مال الله"؟ فنزل معاوية على رأيه. والحق أن أبا ذر يعلم أن المال مال الله، ولكنه آثر استخدام المصطلح الذي يوحي بحق كل فرد في المال العام، وفي الرقابة على إنفاقه في المصارف الشرعية.
ه‍ ـ حق الصفوة في مراجعة مخصصات الولاة الفرعيين:
سلمت الصفوة بحق المجتمع في مراجعة المخصصات التي يحددها الخليفة لأمرائه، إذا تعارض هذا التحديد مع متطلبات دعم التوافق بين الدولة والمجتمع. من ذاك، مناشدة أبي موسى الأشعري، أشراف البصرة، أن يكلموا عمر بن الخطاب في زيادة في مخصصاته من بيت المال، فكلموه في ذلك، فقال: يا معشر الأمراء أما ترضون لأنفسكم ما أرضاه لنفسي؟ فاحتجوا عليه باختلاف الظروف في مجتمع المدينة، عنها في العراق، مما يحتم زيادة مخصصات الأمير، حتى يتثنى له تأليف قلوب الناس.
الصفوة وتحديد دور الدولة والمجتمع عبر التوظيف السياسي للمال العام:
استعملت الصفوة المال العام كأداة لتحقيق التوافق والتوازن، بين دوري الدولة والمجتمع، في مجالي تحصيل المال العام وإنفاقه.
وفيما يلي إشارة، إلى أهم الأوجه التي استخدمت الصفوة المال العام فيها، كأداة سياسية، في رسم ملامح دور الدولة، والمجتمع، وتحقيق التوافق والتوازن بينهما:
أ ـ اعتبرت الصفوة السياسة المالية ظاهرة توافقية غير جامدة. فعند حد ما دون "الكفاية" تلزم التسوية في العطاء. إذ تغدو القيمة الأولى، هي: الحفاظ على أرواح البشر. وفي ذلك يقول ابن عباس: "إن الله علم نبيه إبراهيم أن المؤمن والكافر يستويان في ضرورة تحقيق احتياجاتهم الأساسية من الرزق الدنيوي". وروى الصحابة، بخصوص وجوب عدم التمييز، في ظل وضع ما دون حد الكفاية، موقفاً شرب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان على يمينه أعرابي، وعلى يمين الأعرابي أبو بكر وعمر، فأمر أن يشرب الأعرابي قبلهما.
أما حين يكثر المال العام، ويتعدى الحدود الكفيلة بتحقيق حد الكفاية، فإن الدولة تظل راعية وليست خازنة له، بمعنى أنه يتعين عليها، في منظور الصفوة، أن توزع على المجتمع، كل الموارد السائلة، التي تزيد عن متطلبات تسيير أداة الحكم.
ويذكر أن الإمام علياً لم يكن يترك شيئاً في بيت المال لأكثر من عام، دون أن يقسمه، بل كان يعطي العطاء ثلاث مرات، وربما أكثر، في العام الواحد، ويقول: "لست لكم بخازن". ويخاطب بيت المال قائلاً: "لا أمسى وفيك درهم". وكان يكنسه ويصلى فيه رجاء أن يشهد له أنه لم يحجز مال المسلمين عنهم.
ولما سأل زياد بن أبيه، الصحابي عمران بن حصين، وكان قد بعثه ساعياً، فرجع وليس معه أي شئ: "أين المال؟". قال: "أللمال أرسلتني؟ أخذناها كما كنا نأخذها على عهد رسول الله، ووضعناها في المواضع التي كنا نضعها فيها، على عهد رسول الله".
ومن تعليمات الرسول لمعاذ، لما بعثه على الصدقة، أن يأخذها من الأغنياء ويردها على الفقراء، ويتجنب كرائم أموال الأغنياء، ويتقى دعوة المظلوم.
ب ـ أسلمة إجراءات الجباية:
لقد أرست الصفوة من خلال تدابير الجباية التي اتبعوها صورة الدول الإسلامية كدولة راعية ذات وظيفة حضارية، فهذا عمر لا يسعده ضخامة ما جئ إليه به من أموال الجزية. ويسأل: "إني لأظنكم قد أهلكتم الناس" فَهَمُهُ ليس المال؛ بدليل أنهم لما نفوا هذا الظن قائلين له: "لا، ما أخذنا إلا عفوا صفوا" أي ما هو فائض عن الحاجة تماماً، سأل عما إذا كانوا قد لجأوا، إلى أي درجة من الإكراه في التحصيل، قائلاً: "بلا سوط ولا نوط". أي بلا ضرب ولا إهانة، فلما قالوا له: نعم، قال: نعم، أي حل المال. الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي، ولا في سلطاني".
وكان علي يوصى عامله على الخراج، أمام الناس باستيفاء الحق كاملاً، ثم يخلو به ويأمره بالرفق بالناس، وبأن يأخذ المقرر على كل ذي صنعة، عيناً بقيمته من الدراهم، ولا يحمله على بيعه، رفقاً به؛ وتخفيفاً عنه".
ج‍ ـ محاولة استئصال الفقر:

قال ابن عباس، إن الصدقة لا تكون إلا عن ظهر غنى، وفسر (وَيَسأَلونكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْو)، بأن العفو هو ما يفضل عن نفقة الأهل. وحذر الإمام على من أن يكون خصم المرء حاكماً، أو محكوماً، عند الله، هم: الفقراء، والمساكين، والسائلون والغارم، وابن السبيل.
د ـ المسؤولية التضامنية بين الأجيال بعد حد الكفاية:
أرسى عمر، لما زادت إيرادات المال العام مع فتح العراق مبدأ ضرورة عدم استئثار الدولة بصنع القرار السياسي، المتعلق بترتيب أوضاع المال العام، فأجرى مشاورات موسعة مع المهاجرين، والأنصار، ووجهاء مسلمي الفتح، أكد خلالها على ضرورة رعاية الثغور، واحتياجات الذرية والأرامل، ومصلحة الأجيال القادمة، في ترتيب أوضاع المال العام. وتمت المناقشة تحت شعار أساسي، هو: أن الحاكم مجرد فرد في هيئة الشورى، وإعلان الثقة في الأمة، خالفته، أو وافقته، والرد إلى كتاب الله. قال عمر: "إني واحد منكم، كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ومعكم من الله كتاب ينطق بالحق".
ه‍ ـ ضوابط وتدابير التوظيف السياسي للمال العام:
انتهت الصفوة، إلى وضع أربعة ضوابط للتوظيف السياسي للعطاء، بعد حد الكفاية وهي: البلاء في الإسلام، والسابقة في الإسلام، والخدمات التي يقدمها المرء للإسلام، ومطلق الحاجة.
وَسَعَتْ الصفوة من خلال سياستها في إنفاق المال العام، إلى دعم بنية المجتمع، فكانت تعطى المتزوج ضعف حظ العازب. وتفرض لعيال المقاتلة، وذريتهم. بل إن عمر أمر مناديه أن يعلن في الجنود: "أن عطاءهم قائم، ورزق عيالهم سائل. فلا يزرعون ولا يزارعون".
وسعت الصفوة، عبر استخدام المال العام، الذي أضفوا عليه طابعاً إسلامياً، إلى حد أن الدراهم في عهد عبد الله بن الزبير، كان مكتوباً على أحد وجهيها شهادة، أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وعلى الوجه الثاني شعاراً سياسياً بالغ الأهمية، هو: "أمر الله بالوفاء، والعدل"، إلى دعم الأنساق المجتمعية. ومن قبيل الحرص على إيجاد أنساق مجتمعية، ودعمها، أن أبا بكر قرن التسوية في العطاء بعدم إعطاء كل فرد نصيبه على حدة، وإنما كان يقسم المال على الناس، بالتسوية بين الحر، والعبد، والذكر، والأنثى، والصغير، والكبير، "نقرا نقرا" أي: في شكل أسهم، يصيب كل مائة إنسان واحداً منها.
كما حرصت الصفوة، على دعم المحليات. فلم تكن تنقل مالاً من محلته إلى العاصمة، إلا إذا زاد عن احتياجاتها. ولقد جاء في رسالة بعث بها عمرو بن العاص، إلى عمر، ما يؤكد هذا المبدأ، من قوله: "إن صلاح أحوال مصر رهن بأن يؤخذ ثلث خراجها فيصرف في عمارة طرقها وجسورها، ولا يستأدى خراج كل صنف إلا منه عند حصاده".
وكان عمرو يحبس ما تحتاج إليه العمارة في مصر، ثم يبعث الفائض إلى عمر. وجعل الخراج نصف ما كان عليه أيام المقوقس، مع قدر من السماحة في تحصيله، واعتبر أية زيادة، ولو طفيفة فيه، أمراً ضاراً من وجهة النظر المستقبلية، وسبيلاً إلى نقص الخراج.
ورصدت الصفوة حصة من بيت المال، لدعم التواصل بين أجزاء الدولة الإسلامية، وخصص عمر عدداً ضخماً من الجمال، بوصفها وسيلة المواصلات المتاحة آنئذ، لتيسير انتقال من لا ظهر له بين الجزيرة، والشام، والعراق. كما اتخذ ما يسمى "دار الدقيق" وهي مكان يجعل فيه السويق، والتمر، والزبيب، ومتطلبات المعيشة الأخرى، يعين به المنقطع به من أبناء السبيل، والضيف الغريب، ووضع في الطريق بين مكة والمدينة، ما يصلح به حاجة المسافر، وما يحمل عليه من ماء إلى ماء. والصفوة، في ذلك، تترسم الهدى القرآني المرشد إلى أن العمران يستلزم التواصل، مما يوفر الأمن، ولا يجعل المسافر بحاجة إلى حمل ماء ولا زاد.
—————————
المصدر: الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.