بشير الطاهر الجليدي / الجماهيرية
لقد رفع الإسلام من شأن العمل، حيث جعله بمنزلة العبادة، التي يتعبد بها المسلم ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، بل بلغ من إجلال الإسلام للعمل ما جاء في الأثر (إن من الذنوب لايكفرها إلا السعي في طلب المعيشة) ابن عساكر عن أبي هريرة، لأن طلب الرزق من القضايا الهامة في حياة الإنسان إن لم يكن أهمها. وإذا كان الرزق من عند الله، فليس معنى هذا أن يتكاسل الإنسان ويترك العمل، لأن الله سبحانه وتعالى، حثنا على العمل، لتعمير الأرض وكسب الرزق، وأمرنا بأن ننطلق سعياً للحصول عليه، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) سورة الملك الآية 15 . إن الإسلام يمقت الكسل، ويحارب التواكل ولا يريد أن يكون المؤمن ضعيفاً فيستذل أو محتاجاً فيطمع، أو متقاعساً فيتخلف، كما ينفر الإسلام من العجز ومن الإستكانة إلى اليأس وتيسير الله للعبد أن يحصل على نتيجة عمله هو تشريف لكفاحه، وتقدير إلهي له، أشبه بوسام تضعه السماء على صدور العاملين، في استصلاح الأرض، واستخراج خيراتها . لقد وردت في القرآن الكريم والسّنة النبوية أمثلة تؤكد هذا المعنى وقيمته، وتصف الأنبياء والرسل عليهم السلام بأنهم كانوا ذوي حرف وصناعات بالرغم من مسؤولياتهم المهمة في الدعوة إلى الله الواحد لأنه تعالى قد اختارهم أن يحترفوا، وأن يكتسبوا قوتهم بعرق جبينهم، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود ـ عليه السلام ـ كان يأكل من عمل يده) رواه البخاري، لأن الإسلام لا يعرف الطبقة التي ترث الغني والبطالة، لأن المال لايدوم مع البطالة، كما أن شرف العمل ناتج من شرف الدعوة إليه، وهو وسيلة إلى استدامة النعمة، وإشباع الحاجات، وما دام هذا هو الهدف من العمل فإن الحرفة اليدوية لا تقل أهمية عن العمل العقلي، لأن الهدف لدى المحترف والمفكر والعالم واحد، ولذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : (إن الله يحب المؤمن المحترف) ويقول فيما روته عنه عائشة ـ رضي الله عنها : (من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له) رواه الطبراني . لقد وعد الله العاملين الذين يعملون لكسب عيشهم، بالجزاء الأوفى يوم القيامة، فضلاً عما يكسبه في الدنيا من نعمة . إن أنبياء الله الذين بعثهم الله برسالته، واختارهم لحمل الأمانة، كان العمل من صفاتهم، فهذا نوح عليه السلام كان يصنع السفن وتلك مهنة النجارين، وداود عليه السلام كان حداداً، يقول تعالى: (وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ) سورة سبأ الآية 10، وقال تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ) سورة الأنبياء الآية 80، وموسى عليه السلام، رعى الغنم لمدة عشر سنوات، لدى نبي آخر هو شعيب ـ عليه السلام ـ وقد أخبرنا الله بقصته في قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ) سورة القصص الآية 27 . ومحمد صلى الله عليه وسلم رعى الغنم لأهل مكة وكذلك تاجر في مال خديجة ـ رضي الله عنها ـ قبل أن يتزوجها، وكان رسول الله نعم الصادق الأمين، والقرآن الكريم يقص علينا قصة ذي القرنين الذي نشر في البلاد الأمن والعدل، وبيّن لنا في ثنايا قصته، طريقة عمل الاستحكامات القوية التي ركبت من مزيج كيماوي نتيجة لخلط الحديد بالقطر وصهرهما بالنار، ففي سورة الكهف: (قَالُوا يَا ذَا القَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَداًّ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) والقرآن يلفت النظر إلى أن الحديد مصدر من مصادر الخير ومن الدعامات المهمة في الصناعة، قال تعالى : (وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) سورة الحديد الآية 25، نقف عند المقولة التي وردت علي لسان يوسف عليه السلام ( إني حفيظ عليم) فهو يتعهد لفرعون يتحمل مسئولية هذه المهمة، وسيكون أميناً على ما يستحفظ عليه، وإذا كان أقطاب النبوة، وأولو العزم من الرسل، قد شرفوا باحتراف مهنة يعيشون عليها، ويستغنون بها عن سؤال الناس، فهذا هو خير الطعام . ولم يتحولوا إلى أغنياء، وإنما كان كل ما حصلوا عليه وسيلة للعيش الكريم الذي يحفظ الكرامة قبل أن يحفظ الرمق، ويحفظ ماء الوجه، وذلك ما حض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،حين رغب أصحابه في أن يحترفوا حرفة تُغنيهم عن سؤال الناس، فعن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله (لأن يأخذ أحدكم احبلا فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس: أعطوه أم منعوه) رواه البخاري، وعن سعيد بن عمير عن عمه قال سئل رسول الله : أي الكسب أطيب؟ قال: (عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور) رواه الحاكم. ويقول عمر بن الخطاب: (أرى الرجل فيعجبني، فإذا قيل لاصناعة له سقط من عيني) رواه البخاري . ويقول أيضاً حاثاً على العمل : (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهم أرزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة) وقد تعلم عمر هذا من توجيهات نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام، ويقول الإمام علي كرم الله وجهه: (من مات تعباً من كسب الحلال مات والله عنه راض)، وإن قيمة الرجال تظهر من خلال أعمالهم وأقوالهم، وقناعتهم، وصدق من قال :- صُنِ النفس وأحملها على ما يزينها تعش سالما والقول فيك جميلُ ولا ترينّ الناس إلا تجملاً نبا بك دهر أو جفاك خليل يعز غنيُّ النفسِ إنْ قلّ ما له ويغني غني المال وهو ذليل ولمثل هذا قال رسول الله : (ليس الغِنى عن كثره العرض، ولكن الغِنى غنى النفس) رواه مسلم . وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعي في طلب الرزق له ولأسرته القنوع، الراضي بما قسمه الله له، شبهه بالحاج والمجاهد في سبيل الله، جمع له ثواب الحج وأجر الجهاد، فهل وجدتم أيها المسلمون ديناً قبل الإسلام يدعو الناس إلى العمل بهذه الصورة ويلّح أن يجعلوه قاعدة لحياتهم الاجتماعية ؟ وجعل أطيب الكسب ما كان من عمل الإنسان وجهده وبذلك قضى على طائفة العاطلين باسم الدين، وأحال المجتمع كله إلى خلية نشطة يبذل كل فرد فيها جهده وعرقه، وتلك هي التضحية الحقة والعبادة في أسمى صورها . وإذا كان يوم الجمعة هو أفضل أيام الأسبوع، فالقرآن الكريم يحض المؤمنين على طلب الرزق ويأمرهم بمجرد أداء الصلاة، أن يسعوا في الأرض لتدبير معيشتهم قال تعالى : (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) سورة الجمعة الآية 10 .
إن الاسلام لا يفرق بين عبادة خالصة كالصلاة وبين عمل للحياة وكسب العيش من حيث تقرير ثواب عليه فكل عمل طيب متقن يقوم به إنسان سواء كان خاصا بالعبادة الخالصة أم كان عبادة عن طريق كسب العيش وإثراء الحياة بالإنتاج .. يضع الله النتائج الطبيعية له فى الدنيا ويضع أمامنا الجزاء عليه فى الآخرة كحافز يحمل الإنسان على إجادة عمله وإتقانه مهما يكن نوع هذا العمل.
يقول الله تعالى: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا" (الكهف 30) ويقول الله تعالى فى الجزاء عليه فى الآخرة:"خزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار" (البينة 8) وقال تعالى: "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" (النحل 97) وتشمل الأعمال الصالحة كل عمل طيب وكل سعى حلال يؤديه الإنسان ويشارك به نهضة أمته وتقدمها وتوفير الحياة المنظمة السعيدة لها من بدء تنظيف الشارع إلى القمة .. هذا فى مصتع, وهذا فى مزرعته أو تجارته, هذا فى ديوانه أو فى ميدانه.
وفى السنة النبويه الكريمة نصوصا متعددة تمجد العمل الطيب وترفع درجته وتكرم صاحبه. يقول صلى الله عليه وسلم:
(من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له) عن ابن عباس
(أن الله يحب العبد المؤمن المحترف) عن ابن عمر.
(ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده) عن المقداد.
(لأن يحتطب أحدكم خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) عن أبى هريرة.
ونظر الرسول إلى يد إنسان تورمت من العمل وقبلها وقال:(هذه يد يحبها الله ورسوله). ويقول صلى الله عليه وسلم:( إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا السعى على الرزق) ابن ماجه. وسأل الرسول عن أحد أصحابه وقد غاب عنه فقال له إخوته: هو يصوم النهار ويقوم الليل فقال الرسول: فمن يطعمه ويكسوه؟ قالوا:كلنا يا رسول الله … قال (كلكم خير منه).
ولا يعرف الإسلام ما شاع بين الناس فى وقت من الأوقات من إحتقار بعض الأعمال فكل عمل له قيمته فى نظر الإسلام .. هذا أعطى أجرا والآخر أعطى جهدا .. وقد أوصى الإسلام كلا منهما بأن يتقى الله فيما يبذله للآخر هذا بإعطاء المال دون إجحاف للعامل وذلك بإعطاء الجهد كاملا والعمل متقنا حتى يكون كسبه حلالا طيبا ويصدق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:( رحم الله امراء إكتسب طيبا).
من كتاب "دستور المهن فى الإسلام" للأستاذ عباس حسن الحسينى