دكتور إبراهيم البيومي غانم
إن "نظام الوقف" بمرجعيته الشرعية يحمل بداخله عناصر بقائه وإمكانيات تجديده وتطوره، كما يتضح من الدور الرئيسي لهذا النظام على محور العلاقة بين المجتمع والدولة والذي تمثل -تاريخيًّا- في بناء ودعم المجال التعاوني المشترك بينهما، فكان مصدر قوة لهما معًا، الأمر الذي يطرح وجود حاجة اجتماعية ملحة لاستعادة دور نظام الوقف الفعال في واقع مجتمعاتنا المعاصرة ومستقبلها؛ وذلك للإسهام في تحقيق الإنماء )أو النهوض الشامل) وفي توسيع وتوثيق دائرة المجال التعاوني المشترك بين المجتمع والدولة، وإنعام النظر في نظام الوقف في دول مجلس التعاون الخليجي يدل على أنه مهيأ للنهوض وللقيام بهذا الدور، وتجربة الأمانة العامة للأوقاف بدولة الكويت خير شاهد على ذلك.
تابع في هذا المقال:
أولا: منهج النظر لنظام الوقف بين التأصيل والتغريب
ثانيًا: دور الوقف في بناء مجال مشترك بين المجتمع والدولة:
التأسيس الفقهي لفاعلية نظام الوقف
عناصر فاعلية الوقف في الممارسة الاجتماعية
فاعلية نظام الوقف بين المجتمع والدولة
ثالثًا: إطلالة على واقع نظام الوقف في دول مجلس التعاون الخليجي:
سياق عودة الاهتمام بنظام الوقف في دول الخليج
مقومات فاعلية نظام الوقف في دول مجلس التعاون الخليجي
خاتمة: نحو تفعيل دور نظام الوقف: الإمكانات والتحديات
أولاً: منهج النظر لنظام الوقف بين التأصيل والتغريب
في السنوات الأولى من القرن الخامس عشر الهجري ظهرت أول بادرة جماعية علمية ومنظمة لعودة الاهتمام بنظام الوقف الإسلامي، وكان ذلك في سنة 1403هـ (1983م (عندما قام معهد البحوث والدراسات التابع لجامعة الدول العربية بعقد ندوة بعنوان "مؤسسة الأوقاف في العالم العربي والإسلامي"[1]
ومنذ ذلك الحين توالت الندوات العلمية حول الوقف، وبدأ الاهتمام به -نظريًّا وتطبيقيًّا- يتقدّم رويدًا رويدًا، في مناطق متفرقة من بلدان العالم الإسلامي.
وفي عام 1414هـ (1993م) شهد هذا الاهتمام نقلة نوعية متميزة بتأسيـــس "[2] الأمانة العامة للأوقاف"
بدولة الكويت، ومن ثم بدأت الصورة السلبية النمطية عن الأوقاف تنحسر، وبدأ طوق قيدها ينكسر لتستعيد دورها الاجتماعي، وتجدد وظائفها الإنمائية والخدمية، ولتستردّ موقعها الصحيح على محور العلاقة بين المجتمع والدولة.
ولا تزال موجة الاهتمام بالوقف -علميًّا وعمليًّا- آخذة في الصعود والاتساع[3]، وهي مرشحة لمزيد من هذا وذاك في المستقبل المنظور بفضل جملة من الظروف الموضوعية: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية؛ ليس هنا مجـال التفصيل فيها.
ولعل من أهم ما نلاحظه في هذا السياق هو "التوازي التاريخي" بين موجة الاهتمام بنظام الوقف وموجة الاهتمام المكثف بالعمل الأهلي، أو بالقطاع اللاربحي، أو "الثالث"، بما يحتويه من مؤسسات وأنشطة وفعاليات تدخل ضمن مفهوم أكثر رواجًا هو مفهوم "المجتمع المدني"[4] ؛ فمنذ ما يقرب من عقدين.. يشهد العالم موجة عالية وطويلة من الاهتمام بهذا القطاع وبـذاك المفهوم؛ على المستوى النظري الأكاديمي، وعلى المستوى العملي التطبيقي، وهذه الموجة لا تزال -هي الأخرى- في صعود واتساع على النطاق العالمي والإقليمي والمحلي، وهي مرشحة كذلك للاستمرار في ظل التحولات الاقتصادية والسياسية وعمليات إعادة هيكلة العلاقة بين المجتمع والدولة، وتخليها عن القيام بتقديم كثير من الخدمات -أو عن دعمها- على نحو ما كانت تقوم به في مرحلة سابقة، وينطبق هـذا التحول بدرجات متفاوتة على المجتمعات الصناعية في أوروبا وأمريكا واليابان ، كما ينطبق ـ بنسب متفاوتة أيضًا ـ على مجتمعات القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
إلا أن هذا التوازي التاريخي بين الموجتين لا يعنى تساويًا أو توازنًا بينهما؛ فموجة المنظمات غير الحكومية والقطاع الثالث و"المجتمع المدني" موجة عالية، وتقف خلفها مؤسسات وحكومات ومراكز بحوث وجامعات، ولها سياسات عابرة للقارات تندمج حاليًا في تيار العولمة، كما أن لديها إمكانيات مالية وتكنولوجية ولها أتباع ومريدون وعمال.
أما موجة الاهتمام بالوقف وبمنظومة العمل التطوعي ومؤسساته وتراثه الإسلامي وواقعه ومستقبله بشكل عام فموجة لا تزال محدودة، وإمكانياتها قليلة، ولكن "أصالتها" هي ميزتها الأساسية التي تضمن لها القبول والرضا، ومن ثم "الشرعية الاجتماعية"، وهي أمور لا تزال تفتقر إليها الموجة الأخرى إلى حد كبير في مجتمعاتها العربية والإسلامية[5]
وبالرغم من هذا التوازي "التاريخي" بين الموجتين واستقطاب موجة "القطاع الثالث" والمجتمع المدني لاهتمام معظم النخب الفكرية والثقافية والسياسية في مجتمعاتنا.. فإن هذه النخب -في جِدالها المستمر حول الموضوع- لم تتنبه إلى أهمية نظام الوقف، ولا إلى دوره في بناء شبكة واسعة ومتنوعة من المؤسسات والمبادرات والأنشطة الأهلية التي ملأت مساحات مؤثرة داخل المجال الاجتماعي بهدف دعم الكيان العام للأمة[6] بما فيه جهاز "الدولة" ذاتها[7]
وليس "نظام الوقف" وحده هو الغائب عن الجدال النخبوي في بلادنا حول مفهوم المجتمع المدني ومؤسساته، وإنما تغيب أيضًا بقية مكونات "منظومة" القيم والمبادئ والأخلاقيات والسلوكيات التي حضّ عليها الإسلام ليعلي من قيمة المشاركة في الشأن العام، وليدعم التكافلات الأفقية والرأسية في مختلف دوائر البناء الاجتماعي وتكويناته بدءاً من الأسرة والعائلة الممتدة، ووصولاً إلى الكيان العام للأمة، وللبشرية كلها.
ولعل السبب الرئيسي لذلك يتمثل في الهيمنة الظاهرة لمفهوم "المجتمع المدني" بمضمونه المستمدّ من المرجعية المعرفية التاريخية الغربية؛ فأحد استعمالات هذا المفهوم تجعله نقيضًا للمجتمع الديني، ومن ثم فالانطلاق منه بهذا المعنى يؤدي إما إلى الغفلة عن مكونات قيمية ومؤسسية أصيلة -وإن لم تكن فاعلة بالقدر المطلوب حاليًا- كالإحسان والتراحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والزكاة والصدقات والكفّارات والنذور والأوقاف والمساجد، وكلها لها دور أصيل في بناء التنظيم الاجتماعي المتضامن المتكافل، والمعافى من أسقام التفتت والانقسام والصراع.
أو قد تؤدي تلك الهيمنة إلى الإدراك المشوه لبعض التكوينات الاجتماعية الموروثة كالقبيلة، والطريقة.. إلخ مع المسارعة بإدانة هذه التكوينات ودمغها بكل ما هو سلبي[8]) دون بذل أي مجهود للبحث عن جوانب القوة فيها، والسعي لتوظيفها إيجابيًّا في خدمة المجتمع وتطوره، وتؤدي تلك الهيمنة -كذلك- إلى إقحام مكونات غريبة، وقيم دخيلة لا تتسق مع المحيط الاجتماعي العربي الإسلامي، ولا تتجانس مع نسق القيم السائدة؛ كمفاهيم “Gender” ، و”حقوق الشواذ”..إلخ.
وإذا كان استعمال مفهوم “المجتمع المدني” لقراءة الواقع الاجتماعي وتحليله والسعي لتطويره في بلداننا العربية والإسلامية يؤدي إلى ما سبقت الإشارة إليه من إغفال لبعض المكونات الأصيلة والفاعلة، وتشويه لبعضها الآخر، وإقحام لمكونات غريبة وقيم سلبية في حالات أخرى ـ إذا كان ذلك كذلك ـ فإن التحفظ على هذا المفهوم يضحى ضرورة علمية ومنهجية، وبخاصة إذا كان موضوع البحث والتحليل عبارة عن قيم ومؤسسات وممارسات أصيلة وموروثة وذات مرجعية معرفية وتاريخية إسلامية منفكة الصلة عن مرجعية قيم ومؤسسات وممارسات المجتمع المدني في خبرة المجتمعات الغربية.
وعلى ذلك يمكن القول: إن محاولة تقريب نظام الوقف ومؤسساته من نظم ومؤسسات شبيهة في المجتمعات الأوربية والأمريكية تعرف تارة بمؤسسات العمل التطوعي أو المنظمات غير الحكومية الداخلة في تكوين مفهوم المجتمع المدني، هذه المحاولة غير مجدية؛ إذ إنها تؤدي إلى النظر في "نظام الوقف" -محل اهتمامنا- من خارجه، وتفسره داخل منظومة أخرى من القيم والمفردات والمؤسسات والممارسات المفارقة له وهو ما لا نسعى إليه، ولن نمارسه في بحثنا هذا، فالأسلم في نظرنا هو أن نبحث التكوينات الأساسية لمجتمعاتنا، بمفاهيم ومصطلحات مستمدة من قاموسها المعرفي والثقافي؛ لنتمكن من سبر أغوار تلك التكوينات ومعرفة منطقها الداخلي، ثم نقوم بنقدها -بعد معرفتها- لنقبل منها ونرفض على أسس موضوعية، بدلاً من أن نطمس عليها باستخدام مفاهيم ومصطلحات ومناهج لا تنتمي إليها، وليست لديها مقدرة تفسيرية خارج البيئة الاجتماعية والتاريخية التي أنتجتها.
إن التحفظ على مفهوم "المجتمع المدني" ورفض استخدامه كمفهوم تحليلي لبحث "نظام الوقف الإسلامي" لا يعنيان الامتناع عن توظيف الأطروحة النظرية العامة لهذا المفهوم، وموقعها على محور العلاقة بين المجتمع والدولة، في المقارنة مع الأطروحة العامة التي ينتمي إليها نظام الوقف وموقعها النظري -كذلك- على المحور ذاته؛ فمثل هذه المقارنة مفيدة في بيان جوانب من خصوصية كل من الأطروحتين، والوصول إلى فهم أكثر دقة، وإلى معرفة أكثر فائدة نظريًّا وعمليًّا.
ثانيًا: النموذج القياسي لدور الوقف في بناء مجال مشترك بين المجتمع والدولة
"الوقف" في أصل وضعه الشرعي هو "صدقة جارية" -أي مستمرة-، والمراد منها هو استدامة الثواب والقرب من الله -تعالى- عن طريق دوام الإنفاق في وجوه البر والخيرات والمنافع العامة على اختلاف أنواعها وتعدّد مجالاتها.
وللفقهاء تعريفات اصطلاحية متعددة من حيث صياغتها، ولكنها متقاربة من حيث معناها، ومن ذلك ما قاله ابن حجر في فتح الباري: " الوقف عبارة عن قطع التصرف في رقبة العين التي يدوم الانتفاع بها، وصرف المنفعة لجهة من جهات الخير ابتداءً وانتهاءً"[9]
وقريب من هـذا التعريف ما ذكـره قدري باشا، وهـو أن الوقف عبارة عن : "حبس العين عن أن يتملكها أحد من العباد، والتصدق بمنفعتها على الفقراء ولو في الجملة، أو على وجه من وجوه البر"[10].
وعبر الممارسات الاجتماعية للوقف، وبفضل الاجتهادات الفقهية التي واكبت تلك الممارسات -تاريخيًّا وعلى امتداد العالم الإسلامي- تبلورت شخصية متميزة "لنظام الوقف" باعتباره نظامًا فرعيًّا داخل النسق الاجتماعي الإسلامي العام، واتسم -دومًا- بأنه نظام شديد الارتباط بمختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، إلى جانب عمق ارتباطه بالجوانب الروحية والأخلاقية وحتى الإبداعية[11]، ومن ثم جاز لنا القول بأن نظام الوقف "كثيف العـلاقات" مع بقية أجزاء النسق الاجتماعي العام، وأنه متعدد الأدوار داخله، وأن "فقه الوقف" هو في جملته عبارة عـن ترجمة تفصيلية لجانب أساسي من جـوانب مفهـوم "السياسة المدنيـة" في الرؤية الإسلامية؛ تلك التي تنظر إلى "السياسة" على أنها تدبير لأمور المعاش بما يصلحها في الدنيا، وبما يؤدي إلى الفلاح في الآخرة"[12].
ويشير السجل التاريخي- الاجتماعي لنظام الوقف إلى أنه كان قاعدة صلبة من قواعد بناء مؤسسات المجتمع، ودعم كثير مـن مرافق الخدمات العامة في مجالات العبادة والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والأنشطة الترفيهية والثقافية والرمزية، وبخاصة في مجالات الاحتفال بالمواسم والأعياد[13].
كما يشير هذا السجل نفسه إلى أن "نظام الوقف" قد اكتسب موقعًا وظيفيًّا تأسيسيًّا في بنية التنظيم الاجتماعي والسياسي للمجتمعات الإسلامية، وأن الدور الرئيسي لنظام الوقف من خلال موقعه هذا -قد تجلى في الإسهام في بناء "مجال مشترك" بين المجتمع والدولة.
ولسنا -هنا- بصدد استعراض أمثلة تفصيلية من إسهامات المجتمع والدولة في بناء نظام الوقف[14] -ومن ثم في بناء المجال المشترك بينهما- وسنركز فقط على إبراز الخصائص العامة للنموذج القياسي "لنظام الوقف" وذلك بالرجوع إلى أصوله الفقهية الشرعية، وإلى تقاليده التاريخية الإيجابية التي تبلورت عبر الممارسات الاجتماعية؛ مفترضين أن فعالية هذا النظام قد ارتبطت بعلاقة طردية مع توفر تلك الخصائص العامة، ومن ثم فإنه من المفيد التعرف عليها لتوظيفها في الجهود الساعية لإحياء نظام الوقف وتمكينه من أداء دوره الفاعل في توثيق علاقة المجتمع بالدولة، إلى جانب وظائفه وأدواره الأخرى، وبيان ذلك كما يلي:
التأسيس الفقهي لفعالية نظام الوقف:
لعل من أهم ما أسهم به "الفقه" في بناء نظام الوقف هو إرساء أسس فاعلية هذا النظام؛ من خلال تأصيل الفكرة المجردة للوقف، وهي فكرة "الصدقة الجارية"، وأيضًا من خلال تفصيل الأحكام المتعلقة بالإجراءات والتنظيمات المشخصة لهذه الفكرة في الواقع الاجتماعي.
والملاحظ أن "باب الوقف" هو من الأبواب الثابتة في جميع مصادر الفقه الإسلامي بجميع مذاهبه -السنية والشيعية- وهو مليء بالاجتهادات والآراء والأفكار التي عالجت مسائل الوقف من مختلف الجوانب وبالبحث في التاريخ المعرفي لفقه الوقف تبيَّن لنا أنه كان أول فرع من فروع الفقه الإسلامي يستقل بذاته، وتُفرد له مؤلفات خاصة به، وذلك منذ منتصف القرن الثالث الهجري على يـد هـلال بن يحيى المعروف بهـلال الرأي )ت 245 هـ)[15]) ومن بعـده بقليل من السنوات أبو بكـر الخصاف الحنفي (ت 261) الذي ألف أشهر كتاب في هذا الموضوع وهو كتاب "أحكام الأوقاف"[16].
ويستفاد من فقه الوقف -بدون الدخول في تفاصيله وتفريعاته- أن الفقهاء قد بذلوا جهودًا مضنية لوضع أصول البناء المؤسسي لنظام الوقف على النحو الذي يحافظ على حرمته، ويضمن له استمرار النمو والعطاء اللذين يكفلان تحقيق الغاية منه في خدمة الترقي الاجتماعي العام. وتتلخص تلك الأصول في ثلاثة مبادئ كبرى هي:
أ - احترام إرادة الواقف:
"إرادة الواقـف” المقصودة هنا هي التي يقوم بالتعبير عنها –في وثيقة وقفه- في صورة مجموعة من الشروط التي يحدد بها كيفية إدارة أعيان الوقف، وتقسيم ريعه، وجهات الاستحقاق من هذا الريع، ويطلق على تلك الشروط في جملتها اصطلاح “شروط الواقف”، وقد أضفى الفقهاء عليها صفة الإلزام الشـرعي فقالوا: إن "شرط الواقف كنص الشارع"[17] في لزومه ووجوب العمل به.
وعلى ذلك نظروا إلى وثيقة الوقف )الحجة) باعتبارها "دستورًا" واجب الاحترام، وأن أحكامه واجبة التطبيق، ولكنهم حددوها بأن تكون محققة لمصلحة شرعية، وموافقة للمقاصد العامة للشريعة، وأبطلوا كل شرط يؤدي إلى إهدار مصلحة معتبرة؛ وبذلك توفرت للأوقاف ومؤسساتها حماية شرعية، وحرمة معنوية ؛ وكانت -هذه وتلك- من عناصر فاعليتها، ومن أهم أسباب زيادة الطلب الاجتماعي لها.
إن الإرادة الحرة للواقف هي حجر الزاوية في بناء نظام الوقف كله على صعيد الممارسة الواقعية، ولم يكن لهذا النظام أن يظهر وينمو وتتنوع وظائفه بدون تلك الإرادة، التي كفلت له أحد عناصر فاعليته؛ ولذلك فقد أضفى عليها الفقهاء صفة الحرمة، وأكسبوها قوة الإلزام.
ب- اختصاص السلطة القضائية بالولاية العامة على الأوقاف:
قرر الفقهاء أن الولاية العامة على الأوقاف هي من اختصاص السلطة القضائية وحدها دون غيرها من سلطات الدولة[18]، وتشمل هذه الولاية ولاية النظر الحسبي أو ما يسمى بالاختصاص الولائي، وولاية الفصل في النزاعات الخاصة بمسائل الأوقاف، أو ما يسمى بالاختصاص القضائي.
والذي يهمنا هنا هو "الاختصاص الولائي" الذي يشمل شئون النظارة على الوقف وإجراء التصرفات المختلفة المتعلقة به؛ بما في ذلك استبدال أعيانه عند الضرورة والإذن بتعديل شروط الواقف أو بعض منها، والحكم بإبطال الشروط الخارجة عن حدود الشرع وفقًا لمقاصده العامة.. إلخ[19].
ومن الواضح أن مثل تلك التصرفات من شأنها التأثير في استقلالية الوقف، ومن ثـم في فاعلية الأنشطة والمؤسسات التي ترتبط به، وتعتمد فـي تمويلها عليه؛ ولهذا أعطى الفقهاء للقضاء -وحده دون غيره – سلطة إجراء التصرفات في الحالات التي تعرض للوقف بما يدفع عنه الضرر ويحقق له المصلحة، باعتبار أن القضاء هو المختص بتقدير مثل هذه المصالح[20]، ولكونه أكثر الجهات استقلالية ومراعاة لتحقيق العدالة وعدم تفويت المصلحة العامة والخاصة، وأيضًا لعدم تمكين السلطة التنفيذية للدولة من التدخل في شئون الوقف، وعدم إتاحة الفرصة لها لاتخاذ بعض الحالات الطارئة التي تعرض له ذريعة للاستيلاء عليه، أو إساءة توظيفه، أو إعاقة فعاليته.
ويمكن القول : إن بقاء نظام الوقف تحت الاختصاص الولائي للسلطة القضائية كان أحد عناصر ضمان استقلاليته واستقراره وفعاليته ، وبالتالي فإن هـذا الاختصاص ، أو إخراج الوقف من تحت مظلته يضعف استقلاليته ويقضي على فاعليته .
جـ – تمتع الوقف بالشخصية الاعتبارية:
يستفاد من أحكام فقه الوقف وتفريعاته – لدى جميع المذاهب الفقهية – أن الوقف يصبح محلاً لاكتساب الحقوق و تحمل الالتزامات متى انعقد بإرادة صحيحة صادرة من ذي أهلية فيما يملكه ، ومتى كان متجهاً لتحقيق غرض مشروع من أغراض البر والمنافع العامة أو الخاصة ، وينطبق ذلك على أعيان الوقف وعلى المؤسسات والمشروعات التي تنشأ تحقيقاً لأغراض الواقف وشروطه .
إن إقرار الشخصية الاعتبارية للوقف كان بمثابة ضمانة تشريعية وقانونية تدعم الضمانتين السابقتين وتضاف إليهما للمحافظة على استقلاليته واستمراريته وفعاليته في آن واحد ؛ وذلك لأن وجود ذمة مستقلة للوقف لا تنهدم بموت الواقف كان من شأنه دوماً أن يحفظ حقوقه في حالة تعرضه للغصب ، أو الاعتداء ، حتى ولو كان من قبل السلطات الحكومية ، ومن ثم كان من الصعب جدًّا إقدام تلك السلطات على إدماج أموال الوقف ومؤسساته في الإدارة الحكومية أو إخراجها عن إطارها الشرعي والوظيفي الذي أنشئت من أجله.[21]
عناصر فاعلية الوقف في الممارسة الاجتماعية:
في ضوء ما قرره الفقهاء من أصول نظرية ) قانونية ( لنظام الوقف ، تبلورت عناصر مؤسسية وإدارية أسهمت في تفعيل هذا النظام عبر الممارسة الاجتماعية وتراكماتها التاريخية ، مع ملاحظة أن ثمة علاقة جدلية مستمرة ربطت بين النظرية ) اجتهادات الفقهاء (، وبين التطبيق ) ممارسات المجتمع).
وتتلخص أهم عناصر فاعلية الممارسة الاجتماعية لنظام الوقف في الآتي:
أ – المؤسسية:
تعتبر " المؤسسية " من أهم العناصر التي كفلت فاعلية نظام الوقف في الممارسة العملية ، وقد تجلت أهمية هذا العنصر منذ البدايات الأولى لنشأة الوقف ، وكان من الطبيعي في تلك البدايات الأولى أن تتسم المؤسسية بالبساطة والبعد عن التعقيد ، ومحدودية العلاقات التنظيمية والإدارية ، ثم تطورت بمرور الزمن وتعقدت بفعل استمرارية التراكم التاريخي وأصبحت كثيفة العلاقات سواء على المستوى الخاص بكل مؤسسة وقفية على حدة ، أو على المستوى العام ، من حيث ارتباط نظام الوقف ككل بغيره من النظم الفرعية الأخرى في المجتمع .
لقد نشأ الوقف لبنةً في صلب البناء المؤسسي للنظام الاجتماعي الإسلامي نفسه ، ولم ينشأ متأخراً عنه أو لاحقاً له ، وقد وفرت الاجتهادات الفقهية لنظام الوقف مجموعة من القواعد والإجراءات والمعايير التي كفلت له الانتظام الإداري والانضباط الوظيفي ، والفاعلية في الأداء ، وجنبته العشوائية ، وتجسد ذلك في كثير من الأمور ؛ منها إثبات الوقف في صك مكتوب ) حجة الوقف ( ، وتسجيل كافة التصرفات التي تطرأ عليه ، وحفظ جميع وثائقه وأرشفتها ، ووضع قواعد للمحاسبة والرقابة[22] وتحديد الوظائف ، وتعيين موظفين ، وتقسيم العمل بينهم ، مع وضع أهداف محددة للمؤسسة الوقفية …إلخ ، وكلها عناصر أساسية لا غنى عنها لوجـود أي مؤسسة ، ولتمكينها من أداء وظائفها ، ومدها بأسباب الاستمرار والبقاء[23].
ب- استقلالية الإدارة والتمويل:
استند عنصر استقلالية نظام الوقف على الإرادة الحرة للواقف من ناحية ، وتدعمت هذه الاستقلالية من ناحية أخرى عن طريق السلطة القضائية ؛ التي كان لها – كما سبق أن ذكرنا – الولاية العامة على شؤون الوقف، واستوى في ذلك وقف السلطان – بصفته الشخصية أو بكونه حاكماً – مع وقف الشخص العادي .
ومن المعروف أن الأصل في الإرادة الفردية هو الحرية ، كما أن الأصل في سلطة القاضي هو الاستقلال ، وعلى ذلك فالمؤسسة الوقفية ولدت بإرادة حرة ، واستظلت بسلطة مستقلة ، وارتبطت فعاليتها – إلى حد كبير – بمدى تحقق تلك الاستقلالية .
وعبر الممارسة الاجتماعية التاريخية برزت أهم سمتين لاستقلالية نظام الوقف في جانبين، هما:
* الاستقلال الإداري ، حيث اعتمدت إدارة الوقف والمؤسسات الوقفية على القواعد والشروط التي وضعها الواقفون أنفسهم وأثبتوها في نصوص وقفياتهم ، دون تدخل من أي سلطة إدارية حكومية ، ومن ثم لم يتم استيعاب الأوقاف داخل الجهاز الإداري للدولة ، إلا في الحالات الاستثنائية التي كانت تنتفي فيها إمكانية وجود إدارة أهلية مستقلة.[24]
وفي الوقت الذي اتسمت فيه إدارة الأوقاف بالاستقلالية والتسيير الذاتي ، غلب عليها – تاريخيًّا – نمط الإدارة العائلية ، التي كانت لها إيجابيات تمثلت أهمها في الحـرص على أعيان الوقف والالتزام بتنفيذ شروط الواقفين ، وكانت لها – أيضاً – سلبيات تمثلت أهمها في الإهمال وعدم المحاسبة وكثرة الخلافات ، والمنازعات بين الناظر والمستحقين ، وبخاصة في حالة عدم توفر عناصر كفء من ذرية الواقف أو عائلته للقيام بمهمات الإدارة الموكولة إليه .
* الاستقلال المالي ، حيث اعتمدت المؤسسات الوقفية على التمويل الذاتي من ريع الوقفيات المخصصة لها ولم تكن الدولة تقدم لها أية مساعدات مالية تذكر ، بل إنه – في أغلب الحالات – لم يتم إعفاء أموال الوقـف من الضرائب الخراجية والعشورية ( في الأراضي الزراعية) ، وغير ذلك من الرسوم التي فرضت على العـقارات والممتلكات ، وكانت تـؤدى لخزينة الـدولـة باسم " النوائب " أو " أموال الميري ".[25]
جـ – اللامركزية:
تجلى عنصر " اللامركزية " في نظام الوقف عبر الممارسة الاجتماعية في الناحية الإدارية ؛ حيث لم تظهر إدارة مركزية موحدة تتولى شئون جميع الأوقاف في الدولة، بل وجدت " إدارات " متعددة غلبت عليها الصفة المحلية ، وكان أساس عملها هو " التسيير الذاتي" وفقاً لشروط الواقف ، وتحت إشراف القاضي، وبعيداً عن الاندماج في جهاز الإدارة الحكومية ، ولم يظهر النمط المركزي في إدارة الأوقاف إلا في ظل الدولة الحديثة التي نشأت في العالَمين العربي والإسلامي على مدى القرنين الماضيين[26].
كما تجلت " اللامركزية " كأحد عناصر فاعلية نظام الوقف أيضاً في الناحية الوظيفية – أو الخدماتية – حيث لم تتركز الخدمات التي قدمها الوقف في مجال دون غيره، كما لم تقتصر تلك الخدمات على فئة ما ، أو في جماعة دون أخرى ، بل انتشرت على أوسع رقعة من النسيج الاجتماعي للأمة ومرافقها العامة بتكويناتها المختلفة ؛ بغض النظر عن الجنس ، أو الدين أو المكانة ، أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي ، ولم تنحصر ممارسة الوقف ولا خدماته في المراكز الحضرية دون غيرها ، من البوادي والأرياف والمناطق النائية ، بل شملت كل تلك الجهات ، بنسب متفاوتة بطبيعة الحال .
وتكشف الممارسة التاريخية أيضاً عن أن الأوقاف استفادت من تعددية المذاهب والاجتهادات الفقهية في دعم استقلاليتها وتقوية فعاليتها في الاستجابة للحاجات المحلية التي تختلف من جهة لأخرى ، وبما أنه لم يكن هناك مركز فقهي واحد مُلزم للجميع – بل تعددت المذاهب والاختيارات – فقد أدى ذلك إلى إضفاء قدر كبير من المرونة على نظام الوقف ، وظل هذا التوجه قائماً حتى مشارف العصر الحديث إلى أن تم اعتماد مذهب رسمي للدولة في بعض الحالات ، وقننت أحكام الوقف في حالات أخرى ، ومن هنالك بدأت التعددية تقل ، وأخذت النزعة المركزية تزداد ، وآل الأمر في معظم الحالات إلى الاندماج في البيروقراطية الحكومية المركزية[27].
فاعلية نظام الوقف بين المجتمع والدولة:
قبل التطرق لمدى تأثر المجتمع والدولة بحصيلة نظام الوقف – بعناصر فاعليته السابق ذكرها ) الفقهية والتاريخية) نود التأكيد على أن الوقف في نموذجه التاريخي لم تتوفر له على الدوام كل تلك العناصر ؛ بل إنه قد أصابه التدهور نتيجة لفقدان البعض منها أو كلها – في بعض الحالات – إضافةً إلى أسباب أخرى اجتماعية وسياسية ، وبدلاً من أن يكون الوقف قوة دافعة للتقدم الاجتماعي العام كان عقبة في طريق هذا التقدم ، وبخاصة في مراحل الانحطاط العـام التي مرت بها المجتمعات الإسلامية ، ومعنى ذلك أنه مثلما يمكن الحديث عن "نظام وقف فاعل " يمكن الحديث أيضاً عن " نظام وقف غير فاعـل أو معطل " ولكننا نركز في هذا البحث فقط على نموذج " الوقف الفاعل ."
لقد صبت فاعلية نظام الوقف في بناء " مجال مشترك " بين المجتمع والدولة معاً ضمن الإطار التعاوني التضامني الحاكم للعلاقة بينهما ؛ ذلك لأن هذا النظام بخصائصه السابق ذكرها لم يكن مستوعباً بكامله في مصلحة طرف على حساب الطرف الآخر ؛ فهو لم يؤد إلى تقوية المجتمع وإضعاف الدولة، كما لم يؤد إلى تضخم الدولة على حساب الحريات الاجتماعية ، وإنما تركز دوره في تقوية " التوازن" بينهما عبر الإسهام في بناء "مجال مشترك" وليس لبناء جبهة مواجهة يحتمي بها المجتمع ، على النحو الذي تؤدي إليه فلسفة المجتمع المدني[28].
إن نظام الوقف " الفاعل " – في نموذجه التاريخي – كان بمثابة نسق فرعي من أنساق بناء الكيان العام للمجتمع بما في ذلك بناء سلطته السياسية ، حيث اشتركت في بنائه ، واستفادت منه في الوقت نفسه ؛ ومن ثم فإن نظام الوقف لم يقم بمواجهة هذه السلطة أو خلق حركية اجتماعية مضادة لها – وإنما نشأ للقيام بدور تلقائي – وأساسي في الوقت نفسه – في مجال ضبط العلاقة بين الأمة ( المجتمع) والإمام) السلطة السياسية ( بطريقة تجعل إمكانيات تغلغل السلطة وهيمنتها على الكيان الاجتماعي في حدها الأدنى ، وهو ما حدث على مر عصور الدولة الإسلامية التقليدية ؛ إذ ظل حيز السلطة السياسية محصوراً في نطاق ضيق – هو نطاق النخبة – ومحدد الاختصاصات بالنسبة لمؤسسات الأمة التي دعمها نظام الوقف باستمرار ، وكان له دور أساسي في ضبط هذه العلاقة من خلال إسهامه في تلبية قسط كبير من مختلف الحاجات ، وتوفير كثير من خدمات المرافق العامة التي عادة ما اتخذتها الدولة – في الخبرة الأوروبية وفي التجربة العربية المعاصرة – ذريعة لتمددها وبسط سلطتها على مختلف مناحي الحياة : مثل الحاجة للأمن ، وللخدمة ، وللمرافق العامة ، وللتوظيف والحصول على فرص العمل ، وعندما كانت تقدم الدولة تلك الحاجات والخدمات كانت تفرض في الوقت نفسه هيمنتها وتحكم سلطتها على المجتمع ، لقد كانت تقدمها ترياقاً للقمع الذي تمارسه وتؤسس له ، الأمر الذي استوجب نهضة المجتمع المدني : في مواجهة تسلط المجتمع السياسي[29].
ويندرج إسهام نظام الوقـف في بنـاء هـذا المجال ضمن الدور الذي تؤديه " منظومة أعمال التضامن العام " التي تشتمل على أنظمة الزكاة ، والوقف ، والصدقات ، والوصايا ، والكفارات، والنذور والتطوع بالنفس والمال والوقت لعمل الخير وخدمـة الآخرين ؛ فمن حصيلة هـذه المنظومة التي يسهم بها المجتمع ، ومن حصيلة عديد من وظائف السلطة الحاكمة يتشكل " المجال المشترك " ضمن الإطار التعاوني الحاكم لعلاقة المجتمع بالدولة في الرؤية الإسلامية .
ومن المنظور الشرعي والتاريخي نلاحظ أن أيًّا من مكونات " منظومة التضامن " لم يكن حكراً على فرد أو فئة أو جهة دون أخرى ، كما أن الإفادة منها لم تكن مجالاً احتكاريًّا للمجتمع وحده ، أو للدولة وحدها وإنما كانت لمصلحتهما معاً ، وإن بنسب متفاوتة .
وعلى ذلك فإن معنى " المجال المشترك " هو تلك القاعدة التضامنية العامة التي تسهم في بنائها عناصر من المجتمع ومن سلطة الدولة وممثليها ؛ عبر عديد من المبادرات والأنشطة والمشروعات التي تستهدف تحقيق المنافع العمومية – المادية والمعنوية – وتضمن في الوقت نفسه عدم تمكين الدولة من إلغاء إرادة المجتمع وعدم وضع المجتمع في حالة مواجهة مع الدولة . وبتحليل " نظام الوقف " – محل اهتمامنا في هذا البحث – من المنظور الفقهي والتاريخي معاً، ومن حيث مدى إسهامه في بناء " المجال المشترك " بين المجتمع والدولة ، يتضح لنا أن المحصلة النهائية لهذا النظام قد تمثلت في أنه كان مصدر قوة مزدوجة لكل من المجتمع والدولة .
أما كونه مصدراً لقوة المجتمع ؛ فبما وفره من مؤسسات وأنشطة أهلية ظهرت بطريقة تلقائية ، وقامت بتلبية حاجات محلية عامة وخاصة ؛ على أساس التمويل الذاتي ( من الحلال ) ، وتمتعت بالاستقلال الإداري واتسمت بالاستقرار وبالتنوع الوظيفي ، وهذه المؤسسات وتلك الأنشطة تم من خلالها تقديم عديد من الخدمات والسلع العامة- بدون مقابل غالباً ، أو بأسعار رمزية تقل كثيراً عن أسعار السوق – سواء في مجال العبادة ودعم القيم الروحية والبنى الأخلاقية للمجتمع ، أم في مجالات التعليم والثقافة والصحة والرعاية الاجتماعية ؛ بمختلف صورها التي تشمل الفئات الفقيرة وذوي الاحتياجات الخاصة .
وأما كونه مصدراً لقوة الدولة ؛ فبما خفف عنها من أعباء القيام بأداء تلك الخدمات ، وبما عبأه للدولة ذاتها من موارد أعانتها على القيام بوظائفها الأساسية في حفظ الأمن والقيام بواجب الدفاع ، هذا فضلاً عن أن احترام الدولة لنظام الوقف ، ومشاركة رموزها وممثليها في دعمه والمحافظة عليه ؛ كان من شأنه أن يقوي من شرعية سلطة الدولة نفسها ، ويوثق علاقتها بالمجتمع.
ثالثًا: إطلالة على واقع نظام الوقف في دول مجلس التعاون الخليجي:
نظام الوقف – كان ولا يزال – أحد ملامح الحياة الاجتماعية المشتركة التي تتميز بها دول مجلس التعاون الخليج العربي ؛ بل إنه أحد القواسم المشتركة بين مختلف المجتمعات العربية والإسلامية ، وبالرغم من ذلك فإن دور هذا النظام لا يزال غير ملحوظ لدى كثيرين من الكتاب والباحثين والمعنيين بشئون العمـل الأهلي ، وبمؤسسات التنمية الاجتماعية بشكل عام ، فضلاً عن غيابه – كما ألمحنا سابقاً – عـن جـدول اهتـمامات النخـب المشغولة بهموم " المجتمع المدني " ، أو " بصدى " هذا المفهوم[30]، في عالمنا العربي ، وليس فقط في مجتمعات الخليج والجزيرة العربية وحدها .
وثمة عديد من الأسباب التي تجعل نظام الوقف في بلدان مجلس التعاون الخليجي غير ملحوظ بالقدر الكافي في هذا السياق ، ولعل أهم تلك الأسباب ما يلي :
شيوع اعتقاد خاطئ بأن الأوقاف ليست سوى إدارة حكومية تعنى بشئون المساجد وموظفيها من الأئمة والمؤذنين ؛ وهي لذلك لا صلة لها بالعمل الأهلي ، أو بالمؤسسات والأنشطة الاجتماعية والإنمائية .
الإهمال الذي أصاب الأوقاف في فترات سابقة ، وعدم العناية بها أو الاجتهاد في إصلاحها ، وتدني كفاءتها إداريًّا ووظيفيًّا ، الأمر الذي جعل كثيرين من أنصار التحديث على النمط الغربي ينظرون إلى نظام الوقف على أنه عقبة في طريق التقدم ، وعائق يجب تجاوزه من أجل التحديث أو " التنمية " .
ضآلة إسهام الأوقاف في المجال الاجتماعي العام في معظم دول مجلس التعاون الخليجي ، وبخاصة إبان الطفرة النفطية – وحتى الآن – نظراً لاضطلاع الدولة بتقديم مختلف صور الرعاية والضمان الاجتماعي ، وقد ترتب على توسيع دور الدولة ضمور الأنشطة المجتمعية بصفة عامة ، وتلك المؤسسة على نظم قديمة موروثة مثل " الوقف " بصفة خاصة .
النظرة الضيقة إلى الوقف على أنه فقط مؤسسة دينية ) عبادية ( ومن ثم فهو لا صلة له بالشؤون الاجتماعية المدنية لدى أكثر مستخدمي مفهوم المجتمع المدني كنقيض للمجتمع الديني ؛ ولهذا لا ترد الإشارة إلى الوقف في أي من الدراسات التي تنطلق من هذا المفهوم ، بما في ذلك الدراسات الخاصة بمجتمعات الدول الخليجية[31]، وبالرغم من تجذر العمل الأهلي على قاعدة الوقف والصدقات وأعمال الإحسان الأخرى في المجتمعات الخليجية فإن البعض ، نتيجة انطلاقه من مفهوم المجتمع المدني يؤكد على أن “ العمل الأهلي في المجتمع الخليجي في غاية الحداثة “ ، وأن معالمه بدأت تبرز مع مطلع القرن العشرين على أقصى تقدير [32].
سياق عودة الاهتمام بنظام الوقف
وإذا كانت الأسباب – السابق ذكرها – قد أدت إلى تهميش نظام الوقف وعدم الاهتمام به، وأسهمت لعقود مضت في ترسيخ صورة ذهنية سلبية عنه، فإن المتغيرات الاقتصادية والسياسية الجارية على الصعيد الإقليمي في منطقة الخليج – وداخل دول مجلس التعاون الخليجي بصفة خاصة – وعلى الصعيد العالمي بشكل عام ؛ كلها تعزز الاتجاه نحو إعادة الاعتبار لنظام الوقف وتفعيل أداء منظومة أعمال التضامن العام[33] التي ينتمي إليها؛ ليس لتقوية عضلات المجتمع في مواجهة الدولة ، كما يتمنى أنصار المجتمع المدني ومرددو صداه في مجتمعاتنا، وإنما لإعادة بناء المجال المشترك بينهما، وتقويتهما معاً، وتوثيق علاقتهما عبر مجموعة من الأنظمة المتجذرة في الواقع الاجتماعي ، وفي الوعي الثقافي الجماعي لشعوب هذه المنطقة، وفي مقدمتها نظاما الزكاة والوقف وكافة الأعمال الأهلية ، والمؤسسات الاجتماعية الإنمائية والخدمية المرتبطة بهذين النظامين ، أو القائمة على أساسهما .
ولسنا في حاجة إلى الإطناب في بيان أثر المتغيرات الاقتصادية والسياسية الداعية لتفعيل نظام الوقف على هذا النحو ، ويمكن إيجاز ذلك في القول بأن نموذج " دولة الرفاهة الاجتماعية " الذي ساد في دول مجلس التعاون لعقود خلت أخذ في التآكل والانحسار التدريجي ، ولم تعد لديه المقدرة الذاتية على البقاء ، أو الاستمرار لفترة طويلة بالأسلوب المتبع حالياً ؛ وذلك لأسباب كثيرة أهمها التذبذب الدائم في أسعار النفط وانخفاض دخل الدولة منه ، ومن ثم حدوث نقص نسبي في الفائض الاقتصادي الذي كان يوفره لها ، وكان يمثل الدعامة الأساسية لتمويل سياسات دولة الرفاهة[34]- وبالتالي كان لا بد من الشروع في تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي ، وانسحاب الدولة الخليجية من ميدان الخدمة الاجتماعية المدعومة أو المجانية ، وذلك عبر حزمة من السياسات الاقتصادية والمالية ، التي رأت الدولة ضرورة تطبيقها ، وأخذت في تنفيذها بالفعل ، وإن بخطوات متفاوتة من دولة لأخرى من حيث السرعة والبطء .
ضمن هذا السياق العام الذي تفرضه عملية إعادة هيكلة العلاقة بين المجتمع والدولة بدأت الحيوية تدب في أوصال قطاع الأوقاف في مختلف دول مجلس التعاون الخليجي خلال السنوات الأخيرة ، مع تباين في قوة هذه الحيوية من دولة لأخرى ، وقد كان لدولة الكويت فضل السبق لأخذ زمام المبادرة للنهوض بنظام الوقف وتكثيف الجهود الساعية لتفعيله – وإعادة تشغيله في الواقع – بمنهجية مؤسسية منظمة ، وفق رؤية واضحة المعالم[35] يؤرخ لها بنشأة الأمانة العامة للأوقاف في سنة 1993 ، إذ استطاعت " الأمانة " – خلال أقـل مـن عشر سنوات – أن تخطو خطوات ملموسة على طريق التجديد المؤسسي والوظيفي للأوقاف داخل دولة الكويت إلى جانب دأبها على بث نداء النهوض بالوقف في مختلف دول العالم الإسلامي[36].
وفي إطار دول مجلس التعاون الخليجي ، فإن تأثير تجربة " الأمانة العامة للأوقاف " بدأ يظهر بوضوح : ربما بفعل ما يسمى " قوة المثل " Demonstration Effect – الذي ينطبق على دولة كبيرة مثل السعودية[37] وحتى على الإمارات الصغيرة بدولة الإمارات ، مثل إمارة عجمان[38]، وربما ظهر هذا التأثير بفعل الأهم من ذلك وهو أن كل مجتمعات دول مجلس التعاون مهيأة للانخراط في عملية النهوض بالوقف ؛ ليس فقط لتوظيفه كأداة للإسهام في معالجة سلبيات التحولات الاقتصادية والاجتماعية – المشار إليها آنفاً – وإنما أيضاً لتوثيق العلاقة بين المجتمع والدولة ، والإسهام في بناء المجال المشترك بينهما وترسيخه كإحدى دعائم الدولة والمجتمع معاً ، على أساس “ التوازن “ وليس التنافس أو المواجهة .
مقومات فاعلية نظام الوقف في دول مجلس التعاون الخليجي
وبالرغم من التفاوت الكبير – أحياناً – في حجم قطاع الوقف وفي مدى فعاليته حالياً في كل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي[39] فإنه يمثل أحد مكونات التراث المشترك بينها جميعاً ، وهو جزء من تاريخها الاجتماعي ، ورمز من رموز هويتها ؛ إذ يؤرخ له بتاريخ دخول المجتمعات الخليجية في الإسلام ، وتتوفر له ضمن هذه الوضعية العامة في الدول الخليجية – كثير من مقومات النهوض والتفعيل على المستوى الاجتماعي بشكل عام ، وعلى محور العلاقة بين المجتمع والدولة بشكل خاص ، ويؤيد ذلك حقيقة أن أغلبية العناصر الستة اللازمة لوجود نظام الوقف الفاعل متوفرة في حالة دول مجلس التعاون ، وأن غير المتوفر من تلك العناصر لا يوجد ما يمنع من توفره ، وفيما يلي بيان هذه العناصر منظوراً إليها – قدر الإمكان – في إطار واقع مجتمعات الدول الست لمجلس التعاون الخليجي ) السعودية ، والكويت ، والإمـارات ، وقطر ، والبحرين ، وسلطنة عمان):
1. احترام إرادة الواقف على قاعدة " شرط الواقف كنص الشارع " في لزومه ووجوب العمل به ، وهذا العنصر متوفر حيث لم تقدم السلطة في أي من دول المجلس على إصدار قوانين تقيد إرادة الواقف ، أو تسمح للإدارة الحكومية بالتدخل لتغييرها أو لإلغائها ، كما حدث في بلدان عربية أخرى مثل مصر وسوريا ولبنان والعراق وتونس والجزائر ؛ التي أصدرت قوانين قضت بإلغاء الوقف الذري أو ( الأهلي) ، وكان ذلك مصادرةً لقسم من إرادة الواقف – وجزءاً من مصادرة إرادة المجتمع كله – ولا ننسى أن الوقف الأهلي موصول العلاقة بالوقف الخيري ، كما قضت تلك القوانين بإخضاع الوقف الخيري للسلطة الحكومية ممثلة في وزارة الأوقاف وسمحت لها بتغيير مصارف الوقف ، الأمر الذي ألحق أضراراً بالغة بنظام الوقف في تلك البلدان ، وأدى إلى إفقاد الثقة الاجتماعية به ومن ثم تجفيف منابع تجديده ، وتقويض دوره ، ولم يحدث شيء من ذلك في بلدان مجلس التعاون الخليجي عـلى المستوى القانوني أو التشريعي ، بـل إن دول المجلس – فيما عدا الكويت وقطر – لم تضع ، حتى الآن قوانين خاصة بأحكام الوقف ، وتركته على حاله ضمن الإطار الذي رسمته القواعد الفقهية العامة المتعلقة به ، ووفقاً لما جرى عليه العرف والعمل ، وإن كانت هذه الدول أصدرت بعض اللوائح والقرارات التنظيمية لقطاع الوقف بها ، أما القانون الكويتي فهو رغم صدوره – سنة 1951م – إبان موجة صدور قوانين الإلغاء والإخضاع في الدول العربية المشار إليها – فإنه لم يقيد من " إرادة الواقف " بل كفل لها الاحترام الواجب ، وكذلك فعل القانون القطري الصادر سنة 1996م .
وتجدر الإشارة إلى أن عدم المساس بإرادة الواقف قد أبقى على الثقة الأهلية في نظام الوقف على عكس ما حدث في دول أخرى حيث أدى تدخل الدولة في إرادة الواقف إلى إضعاف الثقة بين المجتمع والدولة ومن ثم إلى العزوف عن إنشاء أوقاف جديدة ، وبالتالي حرمان مؤسسات المجتمع الأهلي من أهم مصدر من مصادر تمويلها، ومرة أخرى نؤكد على أن احترام إرادة الواقف هو أحد ضمانات فاعلية نظام الوقف كله وبخاصة في مجال توثيق علاقة المجتمع بالدولة .
اختصاص القضاء بالولاية العامة على الأوقاف ، وهذا العنصر متوفر أيضاً حيث يسود نظام القضاء الشرعي في كـل دول مجلس التعاون الخليجي ، ولم يتم تقليص اختصاصاته أو إلغاؤه أو إدماجه في القضاء المدني ، كما حدث في بلدان أخرى – وتنص قوانين الوقف في بعض البلدان الخليجية على إسناد هذه الولاية العامة على الأوقاف إلى المحاكم الشرعية ، بما في ذلك ولاية النظر الحسبي ، وولايـة الفصل في المنازعات وهو ما تضمنته عدة مواد من قانون الوقف القطري ، منها – على سبيل المثال – المادة رقم 27 التي نصت على أن " تختص المحاكم الشرعية وحدها دون غيرها بالنظر في كل نزاع ينشأ عن تطبيق هذا القانون"[40] بينما نجد أن بلداناً أخـرى مثل السعودية ، والكويت ، والإمارات قد اتجهت للفصل – لاعتبارات عملية – بين ولاية النظر الحسبي والولاية القضائية ، فجعلت الأولى من اختصاص هيئات أو إدارات يتم تشكيلها بطريقة خاصة ممثلة فـي " مجلس الأوقاف الأعـلى "[41]بالسعودية ، ومجلس شئون الأوقاف[42]بالكويت ، وأبقـت على الثانية من اختصاص القضاء الشرعي ومحاكمه .
توفر عنصر الاعتراف للوقف بالشخصية الاعتبارية الكاملة – كأحد أشخاص القانون الخاص بالنسبة للوقفية الواحدة ، وكأحد أشخاص القانون العام بالنسبة للمؤسسة الوقفية الحكومية – سواء كانت هيئة أو إدارة أو أمانة عامة للأوقاف – وقد نص القانون القطري – كمثال – على أن تكون " للوقف شخصية معنوية منذ إنشائه "[43].
ولئن كانت القوانين واللوائح التي صدرت بشأن الوقف في بعض دول مجلس التعاون – ما عدا قطر – قد خلت من النص صراحة على الاعتراف بالشخصية الاعتبارية له ، فقد جرى العمل في الواقـع على ذلك ، ففي الكويت – على سبيل المثال – ذهبت محكمة التمييز في أحكامها الخاصة بالوقف إلى الاعتراف له صراحة بتلك الشخصية[44]، وقد نص المشروع المقترح بقانون إنشاء الهيئة العامة للأوقاف – بدولة الإمارات – على أن تتمتع هذه الهيئة بالشخصية الاعتبارية وتكون لها ميزانيتها المستقلة[45].
الاتجاه نحو مزيد من " المؤسسية " في ممارسة أعمال الوقف ونشاطاته ، وأول ما نلاحظه بشأن المؤسسية كأحد عناصر الفاعلية في حالة نظام الوقف بدول مجلس التعاون الخليجي – هو وجود تفاوت كبير من دولة لأخرى من حيث مدى توفر هذه " السمة المؤسسية " .
والحاصل أن دولة الكويت قد قطعت شوطاً كبيراً من أجل الارتقاء بمستوى العمل الوقفي بها ، وذلك منذ إنشاء الأمانة العامة للأوقاف في سنة 1993 ، حيث اعتمدت المنهجية المؤسسية في معظم أعمالها ، وكفلتها عبر عديد من اللوائح والنظم والإجراءات الداخلية[46]، ووضعتها موضع التنفيذ على أرض الواقع ، وتقوم – من حين لآخر – بمراجعتها وتقييمها بهدف تقويم أدائها وتطويره ؛ الأمر الـذي انعكس بشكل واضح في تفعيل النظام الوقفي الكويتي ، وأحدث فيه نقلة كمية ؛ حيث زاد عدد الواقفين من 408 قبل إنشاء الأمانة إلى 538 بعـدها أي بزيادة 130 وقفاً جديداً خلال بضع سنوات من عمر الأمانة ، وهذا يعني أن ما حققته الأمانة يساوي 24.2 % أي بمعدل زيادة قدره 12.5 ضعفاً سنويًّا بعد إنشاء الأمانة مقارنةً بالمعدل السنوي قبل إنشائها[47]، وفي الوقت نفسه ارتفعت القيمة الإجمالية للموقوفات من 98 مليون د.ك قبل نشأة الأمانة إلى حوالي 131.729 مليون د.ك بعدها ، حسب إحصاءات التقرير المالي لسنة 1999[48]. كما أحدث التطوير المؤسسي نقلة نوعية في سياسات استثمار أموال الوقف ، وفي مجالات صرف ريعـها ، وفي أدوات توزيعها )الصناديق والمشاريع)[49].
وتسعى بقية دول “ المجلس “ – بدرجات متفاوتة – إلى تطوير الأداء المؤسسي في قطاع الأوقاف بكل منها ، وتحاول الاستفادة من منجزات النموذج الكويتي في هذا الميدان . والواقع أن معظم الدول الخليجية لا يزال أمامها جهود كبيرة ومتعددة من أجل الارتقاء بمستوى مؤسسية العمل الوقفي بها ؛ ابتداءً من وضع النظم واللوائح الإدارية والمحاسبية ، ومروراً ببناء قاعدة معلوماتية وإحصائية دقيقة ومنظمة ، ووصولاً إلى إصدار تقـارير دورية لمتابعة النشاط الوقفي ، والاستفادة المثلى من مبدأ التخصص وتقسيم العمل ، والتخلص من تعقيدات الروتين والبيروقراطية التي قد تعوق سير العمل، مع السعي دوماً لرفع كفاءة المؤسسة الوقفية من حيث قدرتها على التكيف والاستجابة المرنة للتحديات التي يفرضها الواقع ، وفي تصورنا أن الإمكانيات اللازمة لكل ذلك متوفرة بدرجة كافية في جميع دول مجلس التعاون الخليجي ، وقد بدأت بعضها بالفعل في اتخاذ خطوات عملية ، والمثال البارز الآخذ في الصعود في هذا المجال هو المملكة العربية السعودية .
المحافظة على استقلالية الإدارة والتمويل في مؤسسات العمل الوقفي وأنشطته ، ويتجلى ذلك – بدول مجلس التعاون – في الآتي :
أ- الإبقاء على نمط النظارة الأهلية على الوقف ، سواء كانت للواقف نفسه ، أم لغيره ممن ينص عليهم في حجة وقفه ، وقد نصت على ذلك صراحة القرارات والقوانين التي صدرت في بعض دول المجلس ؛ ومنها – على سبيل المثال – قرار مجلس الوزراء السعودي رقم (80 ( المؤرخ بِـ 29/1/1392 هـ بشأن تنظيم الأوقاف الخيرية ، حيث نص في فقرته الثالثة على أن " تبقى الأوقاف الخيرية الخاصة تحت أيدي نظارها الشرعيين المحددين في شرط الواقف ، أو الذين صدر الأمر من المحاكم الشرعية بتعيينهم "[50]، كما نص قانون الوقف القطري الصادر سنة 1996 في م/13 على أنه " يجوز أن يجعل الواقف النظارة لنفسه أو لغيره .. " ، و سبقه نص مشابه فـي مرسوم الوقـف الكويتي الصادر سنة 1951م ) م / 6 ( ، وذهب مشروع القانون الإماراتي المقترح إلى نفس الاتجاه . أما سلطنة عمان فيجري العمل فيها طبقاً لنظام توفيقي يجمع استقلالية النظارة الفردية مع تزكية أهالي المنطقة التي يوجد فيها الوقف ، إلى جانب الإشراف العام لوزارة الأوقاف ، وهو يعرف بنظام " وكيل الوقف "[51].
ب- السعي لإعادة هيكلة الإدارة الوقفية وتحريرها من التبعية الكاملة لوزارة الأوقاف في بعض دول المجلس ، وهو ما تجلى بشكل واضح في حالة " الأمانة العامة للأوقاف " بدولة الكويت ؛ حيث تأسست كهيئة " حكومية ذات ميزانية مستقلة " ، وحلت محل وزارة الأوقاف في كل اختصاصاتها المتعلقة بمجال الأوقاف[52]. أما في حالة السعودية ، فهناك اتجـاه نحو إنشاء مؤسسة خاصة – مستقلة عن الوزارة لإدارة واستثمار أموال الأوقاف[53]، وتسعى دولة الإمارات إلى إنشاء هيئة عامة للأوقاف تتمتع بالشخصية الاعتبارية ، لها ميزانية مستقلة وتكون ملحقة – في الوقت نفسه – بوزير الأوقاف[54]، ولا تزال الأوقاف " إدارة " تابعة لوزارة الأوقاف في كـل من البحرين ، وقطر[55].
جـ- فصل ميزانية الأوقاف عن ميزانية الدولة ، وذلك نظراً لخصوصية الوقف في موارده ومصارفه ، ووجوب المحافظة على استقلالية الذمة المالية له حتى يمكن الالتزام بتطبيق شروط الواقفين ، وتختلف دول المجلس في مدى التزامها بهذا الفصل فهو كامل ومحدد الملامح في كل من الكويت ، والسعودية ، والإمارات ، أما في كل من البحرين وقطر وعمان فملامحه غير واضحة وهو أقرب للاندماج في الميزانية العامة للدولة .
وفي جميع دول المجلس – سواء التي تفصل ميزانية الوقف أو التي تدمجها – تقدم الدولة مساعدات سنوية لدعم ميزانية الأوقاف[57]، كما تقدم بعض القروض لتمويل بعض المشروعات التي تقوم بها وبخاصة في مجال إصلاح العقارات الموقوفة وإعادة تأهيلها بغرض استثمارها بكفاءة[56] بالإضافة إلى إعفاء أموال الوقف من كافة الرسوم والضرائب ، وقد نصت على ذلك بعض القوانين صراحة مثل القانون القطري في م / 28 منه التي نصت على أن " تعفى الأوقاف من جميع الرسوم والضرائب كما يعفى الواقف من أية رسوم تتعلق بالإشهار أو بتسجيل الوقف " .
ويمكن النظر إلى تلك المساعدات الحكومية للوقف باعتبارها دعماً للمجال المشترك على قاعدة نظام الوقف بين المجتمع والدولة ، ولكن يُخشى في بعض الحالات – أن تكون هذه المساعدات مدخلاً لبسط السيطرة الحكومية على إدارة الوقف والتحكم في توجيهها .
استمرار قوة الأصول الاجتماعية والسياسية اللامركزية في جميع دول مجلس التعاون ؛ الأمر الذي يتيح فرصة لفاعلية نظام الوقف ليس فقط في الحيز الاجتماعي ؛ وإنما أيضا – وبالأساس – على محور علاقة المجتمع بالدولة في هذه المنطقة ، وقد عرفنا فيما سبق أن " اللامركزية " نزعة أصيلة ومتغلغلة في كل جنبات نظام الوقف[58]، وأنها كلما توفرت بداخله وبالبيئة المحيطة به زادت فعاليته، وينصرف مفهوم اللامركزية داخـل الوقف – فـي هـذا السياق – إلى مستويين رئيسين هما : الإداري، والوظيفي (Functional).
والحاصل على المستوى الإداري في معظم دول المجلس – هو غلبة نمط الإدارة اللامركزية لقطاع الأوقاف ، سواء بالإبقاء على النظارة الأهلية لكثير من الوقفيات ، أم بالاعتماد جزئيًّا على مبدأ اللامركزية في تسيير عمل الإدارات الحكومية المعنية بشئون الأوقاف ، حيث تعمد أغلبها إلى الأخذ بمركزية التخطيط من ناحية ولا مركزية التنفيذ من ناحية أخرى . وربما تنفرد الأمانة العامة للأوقاف بالكويت بين مؤسسات الوقف بدول المجلس باعتمادها على اللامركزية في الأمرين معاً .
ويلاحظ على المستوى الوظيفي " أنه حدث انحسار نسبي لخاصية اللامركزية التي كانت تتمتع بها الأوقـاف قبل الطفرة النفطية ، وذلك بسبب تدخل دولة الرعاية ، وقيامها بمعظم الخدمات العامة ، وتوفير شبكة واسعة من مؤسسات الضمان والرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية ، وغير ذلك من المجالات التي كان يسهم في تمويلها نظام الوقف[59]، ومرة أخرى نجد أن النموذج الكويتي – ممثلاً في الأمانة العامة – قد اهتم بإعادة تفعيل هذه اللامركزية الوظيفية، وإطلاقها من الأطر الضيقة التي حُبست فيها ، واجتهدت الأمانة في تفسير مفهوم " عموم الخيرات " الذي يرد كثيراً في شروط الوقفيات الكويتية القديمة[60]، وصرفته إلى مجالات لم تكن مطروقة من قبل ، مثل : البيئة ، ورعاية المعاقين ، وإصلاح ذات البين … إلخ ، أما في الوقفيات الجديدة فالأمانة تبذل جهوداً ملموسة لتكوين وعي جديد لدى الواقفين لتوجيه وقفياتهم لخدمة قضايا المجتمع المعاصر ومشكلاته .
وأما بالنسبة للبيئة المحيطة بنظام الوقف في المجتمعات الخليجية ، فتسود فيها نزعة قوية نحو " اللامركزية " ، وذلك نظراً لغلبة التكوين الاجتماعي القبلي ، مع الضعف التاريخي لعوامل الاستقرار وتقاليده المعروفة – التي تؤدي إلى تقوية النزعة نحو المركزية كما في المجتمعات النهرية مثلاً – حيث أدى هذا الضعف إلى قوة نزعة اللامركزية بل انتفاء حاجة " السلطة الحاكمة " إلى بناء أجهزة بيروقراطية مركزية محترفة ومنفصلة ومتمايزة عن التكوين الاجتماعي السائد ، وكان الحال ولا يزال يقوم على أساس تداخل أجزاء هذا التكوين مع مراكز السلطة والإدارة بشكل أفقي – لا مركزي – وقد استمرت هذه الأصول ( الاجتماعية والسياسية ) اللامركزية في منطقة الخليج ، ولم تتأثر بشكل جوهري بقشرة الحداثة التي اجتاحت المنطقة مع الطفرة النفطية ؛ ومن حظ مجتمعات المنطقة أن عناصر الحداثة – على مستوى بناء الدولة وتنظيم علاقتها بالمجتمع – قد ظلت " قشرة " سطحية ولم تدمر التكوينات والمؤسسات الأصلية كما فعلت في مجتمعات عربية أخرى ، ولم تُنشئ بديلاً لتلك التكوينات والمؤسسات التي دمرتها ، اللهم إلا تشكيلات هشة ساهمت في بناء دولة تسلطية[61]، وخدمت سلطة الدولة أكثر مما خدمت المجتمع ، بل تستخدمها الدولة كأدوات لإحكام قبضتها عليه ، ومن هنا لعبت الحداثة ضد حرية المجتمع وأعاقت تقدمه ، على عكس دورها الذي لعبته في تاريخ المجتمعات الأوروبية .
وقد ساعد على استمرار قوة النزعة اللامركزية أيضاً – في منطقة الخليج – عدم قيام أنظمة حكم عسكرية فيها ، بما هو معروف عن هذه الأنظمة من نزوع جامح نحو التنميط والدمج والمركزية في كل شيء ضمن الإطار العام لمنهجية الصرامة العسكرية وفي رأينا أن قوة النزعة اللامركزية السائدة في البيئة الاجتماعية والسياسية المحيطة بنظام الوقف في مجتمعات الخليج من شأنها أن تسهم في تهيئة مناخ ملائم لتفعيله، وللنهوض بكثير من مؤسسات وأنشطة العمل الأهلي التي تدعم قوة المجتمع والدولة معاً ؛ عبر الإسهام في بناء ما أطلقنا عليه “ المجال المشترك “ ؛ وبخاصة أن عملية البناء هذه لن تنطلق من فراغ ، إذ لا تزال أساسيات المجال المشترك بين المجتمع والدولة الخليجية قائمة ، وهي تتمثل في ثبات المرجعية الشرعية – وإن لم تكن في كامل فعاليتها كمصدر مهيمن لتنظيم كافة شئون المجتمع والدولة – واتصال معظم تشكيلات المجتمع بالدولة عبر كثير من الروابط القبلية والمهنية والمصلحية ؛ حتى أنه يصح القول بأن فاعلية الجهاز الحكومي هـي فـي الوقت نفسه فاعلية لمؤسسات المجتمع والعكس صحيح أيضاً[62]، وساعد على ذلك أن الجماعات الحاكمة لم تتبنَّ أيديولوجيات مفارقة للأيديولوجية العامة للمجتمع ، ومن ثم لم تكن بحاجة إلى استخدام سلطة الدولة – وبخاصة في إصدار القانون – لقسر المجتمع وضبطه وتنميطه وفق تصوراتها واختياراتها ، بل تداخلت – دوماً – التكوينات الاجتماعية مع مراكز السلطة ، وفعاليات المجتمع مع مؤسسات الدولة ، ولم يحدث أن تمايز الحيز السياسي عن الحيز الاجتماعي ؛ ومن ثم لم تكن هناك حاجة للمواجهة[63]، وكانت القاعدة هي: قيام العلاقة بين المجتمع والدولة على أساس الاتصال وليس الانفصال[64] وضمن هذا السياق نؤكد مرة أخرى – وليست أخيرة – على أن الأداء العام لنظام الوقف الفاعل يصب في اتجاه توثيق علاقة المجتمع بالدولة عبر الإسهام في بناء المجال المشترك بينهما.
خاتمة: نحو تفعيل دور نظام الوقف: الإمكانات والتحديات
إذا كنا قد أكدنا فيما سبق على توفر معظم عناصر نظام الوقف الفاعل لدول مجلس التعاون الخليجي وبخاصة في ظل الظروف الحالية التي تفسح المجال لاستنهاض قوى المجتمع وكافة أنشطة التضامن العام فليس معنى ذلك أنه لا توجد عقبات أو تحديات أمام النهوض به وتفعيل دوره في المجال الاجتماعي بشكل عام وفي توثيق علاقة المجتمع بالدولة بشكل خاص ، فالواقع يحفل بكثير من تلك العقبات والتحديات[65] سـواء على المستوى التشريعي القانوني ، حيث لا تزال الأوقاف – في معظم دول المجلس – تدار وفقاً لتشريعات قانونية أو لوائح إدارية مضى على بعض منها أكثر من نصف قرن ، ولم تعد ملائمة للأوضاع الراهنة[66] أو على المستوى المؤسسي الإداري ، حيث تعاني معظم الجهات المسئولة عن الأوقاف من مشكلات حقيقية في التنظيم والتخطيط ، وانخفاض مستوى مهارات الكوادر العاملة ، وعدم وجود خبراء متخصصين في هذا المجال أو ذاك من مجالات العمل الوقفي ، وهناك تحديات كبيرة أيضاً على مستوى سياسات استثمار أموال الأوقاف ، وتوظيفها اقتصاديًّا ، وصرف ريعها في مجالات النفع العام وفقاً لشروط الواقفين ، وفيما عدا تجربة الأمانة العامة للأوقاف بدولة الكويت ، لا تزال معظم أوقاف البلدان الخليجية تُستثمر وتوظف بطرق تقليدية قليلة الكفاءة ومنخفضة العائد ؛ الاقتصادي والاجتماعي معاً.
وبالرغم من وجود مثل تلك العقبات والتحديات ، فإنها ليست مستحيلة الحل، ويمكن التغلب عليها إذا تم التعامل معها وفقاً لرؤية علمية واضحة وشاملة، وخير شاهد على ذلك هو ما حققته الأمانة العامة للأوقاف من إنجازات خلال فترة وجيزة نسبيًّا – ضمن إستراتيجية – تقوم في جوهرها على أساس تفعيل دور نظام الوقف للإسهام في بناء المجال المشترك بين المجتمع والدولة وتوثيق العلاقة بينهما عبر عديد من[67] السياسات والأنشطة والبرامج والمشروعات.
إن أمام دول مجلس التعاون ومجتمعاته فرصة تاريخية للنهوض بنظام الوقف وتجديد بنيته التشريعية (القانونية) والمادية والمؤسسية ، والوظيفية حتى يمكنه أداء دوره – ضمن منظومة أعمال التضامن العام المنبثقة من الشرعية الإسلامية – في خدمة الدولة والمجتمع معاً، ونشير هنا إلى أهمية الإفادة من التدين العام في المجتمعات الخليجية ، ومن حالة الثراء والغنى ؛ وذلك للحث على إنشاء أوقاف جديدة وبخاصة من قبل أغنياء المجتمع وكبار التجار ، وأصحاب المشروعات الخاصة والشركات والمؤسسات المالية ، وكبار موظفي الدولة ؛فمن مصلحة الجميع أن يقوموا بوقـف بعـض ممتلكاتهم وتثبيتها في الوطن ، وتكوين " احتياطي وقـفي " ينفـع فـي المستقبـل وللأجيال القادمـة إذا ما نضـب يوماً " الاحتياطي النفطي " ، كما أن أمام الدولة الخليجية الكثير الذي يمكن أن تفعله ، وذلك من خلال مساهمتها في تأسيس وقفيات كبرى للنفع العام تشجيعاً للصيغة الوقفية من ناحية ، وإسهاماً في إعادة الثقة في نظام الوقف من ناحية ثانية ، ودعماً للمجال المشترك الذي يربطها بمجتمعها من ناحية ثالثة . هذا إضافة إلى عديد من السياسات التشجيعية التي يمكن أن تبادر بها الدولة في هذا الاتجاه ؛ كأن تتكفل بالمصاريف الإدارية للعمل الوقفي أو تقوم بتحويل بعض الرسوم الحكومية إلى وقفيات لصالح دافعيها … إلخ .
ومحصول ما سبق هو أنه إذا كان الهدف العام من تفعيل نظام الوقف هو توثيق علاقة المجتمع بالدولة – إلى جانب وظائف الوقف الأخرى – فإن جهود هذا التفعيل وأعباءه تقع على كل من طرفي العلاقة[68]، وعلى مستوى دول مجلس التعاون الخليجي ، فإن الوقت قد حان لإيجاد آلية منظمة يمكن من خلالها تنسيق الجهود وتبادل الخبرات بين دول المجلس في هذا الميدان .