السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
التصوف ـ بعد الكلام والفلسفة- هو المجرى الثالث من مجاري الفكر الفلسفي. فقد نشد المتكلمون الحق عن طريق فهم النصوص المنزلة وتقصي أغراضها، وطلبه الفلاسفة عن طريق الجمع بين معاني النصوص وحقائق العلم، بالاستقراء والتأويل، أما المتصوفون فقد ساء ظنهم بوسائل الحس والعقل، ونشدوا الحق بتطهير النفس من مغريات المادة، وإعادتها نقية كما كانت، عندما وردت إلى هذه الدنيا، معتقدين أنهم متى ظفروا بذلك، سمت نفوسهم إلى خالقها، واستمدت منه المعرفة الحقة بالإلهام والكشف الباطني.
1- الغموض في الأدب الصوفي:
على أنه لابد من القول أن التصوف الإسلامي من المواضيع التي لم يستنفدها البحث، وذلك للصعوبات الجمة التي تواجه الباحث المدقق. فالكثير من مؤلفات إعلامه لم ينشر بعد. وأتباعه لم يتفقوا في سلوكهم على خطة واحدة، ولا أجمعوا في معانيهم ومدلولاتهم على مصطلحات وتعاريف ورموز موحدة. فتحلف عن ذلك، في آثارهم، الكثير من الإبهام والبس والغموض. ثم إن الذين تولوا شرح المؤلفات الصوفية، إما متصوفون جاءت شروحهم غامضة غموض الأصل، أو غير متصوفين، التبست عليهم المعاني واشتبهت الأغراض، فلم يجد القارئ في ذلك كله كبير غناء.
وعلة ذلك أن التصوف نزعة روحية وجدانية، تعتمد على الرياضة النفسية، والإحساس الباطني، والذوق الفردي. ولما كان العنصر الذاتي طاغياً عليها، على هذا النحو، تخلف عن ذلك هذا الإبهام الشديد في الأدب الصوفي. على إن الاعتبارات العامة فيه واضحة، وكذلك أهدافه القصوى، إذ هو طريقة في الحياة، قوامها الزهد والتقشف. يرى أصحابها أن حطام الدنيا مصدر الشر والشقاء، فينبذونها ويجهدون في تطهير النفس من أدرانها، رغبة منهم في النجاة من أذى الدنيا، وحرصاً على الظفر بسعادة الآخرة.
2- مصادر النزعة الصوفية:
أفاض الباحثون في تعليل تسمية هذه النزعة بالصوفية، فأعادها بعضهم إلى صفاء القلب، وردها آخرون إلى الصّفة، وهي السقيفة التي رفعت للفقراء المتعبدين في الصدر الأولى، خارج مسجد المدينة، لكي تكون لهم مأوى وملجأ … على أن الغالب – كما أشار ابن خلدون – أنها من الصوف، وهو اللباس الذي كان النساك قد اتخذوه شعاراً، فنسب المتنسك إليه، فقيل: صوفي. واشتقوا من الصوف فعلاً فقالوا: تصوف بمعنى تنسك. ثم استخرجوا لهذه النزعة اسماً بإلحاق تاء المصدرية فقالوا: صوفية، ولعله الأصوب.
والتصوف، بمعناه الصحيح، يصعب رده إلى أصل واحد، فقد داخل عناصره الإسلامية أصول غريبة، بعضها هندي فارسي، وبعضها الآخر يوناني إشراقي. وكثيراً ما يتعذر رد النزعة الواحدة من نزعاته إلى أصل معين، لشيوعها في عدد من هذه الأصول. مثال ذلك: احتقار المادة، والعزوف عن الدنيا، والانقطاع إلى التأمل، والعكوف على الرياضة الروحية؛ فهذه الظواهر تكاد تكون عامة في الأصول المذكورة. وهي نزعات معروفة عند الصينيين والهنود والفرس، وفي اليهودية والمسيحية والأفلاطونية الجديدة. ولا يستبعد أن تكون قد ولدت في أوساط آسيا، وزحفت غرباً. فتأثرت بها بعض الأديان، وهذبتها بعض المذاهب الفلسفية. وبعد فالنفس الشرقية واحدة، وإحساسها الوجداني واحد، واستجابتها للداعي الروحي سريع مباشر.
أما أن يكون التصوف الإسلامي برمته دخيلاً فمردود على القائلين به، بدليل إن أساس الإيمان فيه قائم على النصوص الإسلامية من قرآن وسنة، وعلى المبادئ الدينية من عقائد وفرائض. لكنّ التصوف إذ ظهر في الإسلام لم يكن وليد التطور الطبيعي وحده، بل تسربت إليه، مع مرور الوقت واحتكاك الآراء، عناصر غريبة من مصادر متفرقة، غدت بعد التفاعل والتمثّل جزءاً من صميم كيانه.
3- النظام الإداري وشروط الانتساب:
لم يكن التصوف، قبل القرن التاسع نظاماً خاصاً، بل طريقة في الحياة، آثر أربابها الزهد في حطام الدنيا، والعمل على النجاة من شرورها، والظفر بسعادة النفس في الآخرة. فتوفروا لذلك على العبادة، واعتصموا بالتقوى. وفي غضون القرن التاسع، تأثرت هذه النزعة بمؤثرات خارجية غدا معها الزهد العملي تعليماً فلسفياً، وضع له أربابه نظاماً إدارياً، وحصروا فيه العضوية وعينوا شروط للقبول، ورتبوا الشعائر والرياضات. فقد كان على الراغب في الالتحاق بهم أن يتخلى أولاً عن كل ما يملك وعن كل علاقة له بالمجتمع، ثم أن يمارس رياضة صوفية عسيرة؛ فيعيش في التكية، ويلازم الصلاة، ويوالي القراءة، ويزاول التهجّد. ثم يقوم على خدمة القوم، وإطاعة الشيخ إطاعة عمياء، مدة متوسطها ثلاث سنوات. فإذا قام بالواجب كما ينبغي ألبسه الشيخ الخرقة، فغدا بها من أرباب التصوف. ويمر المتصوف في ترقيه بدرجات أربع، هي: درجة المريد، فالسالك، فالمجذوب، فالمتدارك. ومراتب المتصوفين أربع كذلك هي: مرتبة المبتدئ، فالمتدرج، فالشيخ، فالقطب.
4- طرق التصوف وأهدافه:
الصوفية فرق كثيرة، وهي تعرف بالطرق لأن الفروق بينها أظهر ما تكون في الشعائر والرياضات العملية الشعائر والرياضات العملية. والطرق الصوفية منها المعتدلة المتزنة، التي تمارس الزهد العملي، مثل طريقة الدراويش، ومنها المتطرفة المغالية، التي تعمد إلى قهر الجسد وتعذيبه بشتىالوسائل رغبة في تحرير النفس من سيطرته، نظير الطريقة الرفاعية. ولكل من هذه الطرق شيخ، هو رئيسها ومرجعها، ولجميع الطرق الصوفية رئيس أعلى واحد هو القطب، وهو مرجعهم الأخير في التعليم والمسؤول عن شئونهم تجاه الهيئة المدنية الحاكمة. وهدف المتصوفين معرفة الحق والظفر بالسعادة، كسواهم من أرباب الفكر، لكنهم اعتقدوا أن ذلك غنما يحصل بالتسامي الروحي نحو الله، والتسامي محال قبل تحرير النفس من ربقة المادة؛ لذلك سلكوا سبيل الزهد، وكتبوا رغبات النفس، وغالوا في شعائر العبادة، حتى تمثل لهم الغنى في الفقر، والربح في الحرمان، والراحة في العناء، والسعادة في تحمل الألم، وكان ذلك غاية ما نشدوا، وأعز ما طلبوا.
م/ن