التعصب والإرهاب الطائفي
كان “ابان بن تغلب ” من خواص تلامذة الإمام جعفر الصادق ( ع ) ، وقد أمره أستاذه الإمام أن يجلس للإفتاء في مسجد المدينة، ولأن السائلين والمستفتين كانوا يختلفون في مذاهبهم ومراجعهم، فقد وجهه الإمام إلى أن لا يقتصر على نقل رأي مذهب أهل البيت أو فتاواهم، بل يفتي السائلين حسب مذاهبهم، يقول له الإمام الصادق ( ع ) : “انظر ما علمت أنه من قولهم فاخبرهم بذلك “. وينقل الشيخ أبو زهرة قصة مشابهة عن تلميذ آخر للإمام جعفر الصادق ( ع ) وهو مسلم بن معاذ الهروي انه كان يجلس في المسجد ويفتي الناس بأقوال الأئمة جميعا حتى قال له يوما سيدنا جعفر: بلغني أنك تجلس في المسجد وتفتي الناس. أجاب نعم وكنت أود أن أسألك عن ذلك إذ يأتيني الرجل فاعرفه على مذهبكم فأفتيه بأقوالكم، ويأتيني الرجل فاعرفه على غير مذهبكم فأفتيه بأقوالي مذهبه، ويأتيني الرجل فلا أعرف مذهبه- فاذكر له أقوال الأئمة وأدخل قولكم بين الأقوال، فاشرق وجه سيدنا الإمام جعفر رضوان الله عليه وقاله: ” أحسنت أحسنت هكذا أنا أفعل ا لأنه كان إذا سئل عن مسألة ذكر كلى أقوال العلماء فيها. وبالفعل كان الإمام جعفر الصادق ( ع ) إذا طرحت عليه مسألة ذكر آراء مختلف العلماء فيها كما ينقل ذلك بإكبار الإمام أبو حنيفة يقول: إما رأيت. أفقه من جعفر بن محمد لما أقدمه المنصور بعث إلي فقال: يا أبا حنيفة إن الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد، فهيأت له أربعين مسألة، فجعلت القي عليه فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا فربما تابعهم وربما خالفنا جميعا حتى أتيت على الأربعين مسألة، ثم قال أبو حنيفة: ألسنا روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس “. إن الإمام جعفر الصادق هو أحد أئمة أهل البيت ( ع ) ولا شك أنه يعتقد الصواب في رأيه والحق في فتواه ولكن ذلك لا يمنعه من نقل آراء الآخرين وفتاواهم ليعطي للأمة درسا في التسامح وفي احترام الرأي الأخر مهما اختلفت معه. وهناك حديث آخر عن الإمام الصادق نفسه يرويه عن جده علي بن أبي طالب ( ع ) يفيد مضمونه أن أبواب الجنة مشرعة لجميع المسلمين مهما اختلفت مذاهبهم يقول ( ع ): “إن للجنة ثمانية أبواب باب يدخل منه النبيون والصديقون .
الانفتاح الفكري بين المذاهب الإسلامية
ما الذي يشد الإنسان المسلم إلى مذهب من المذاهب، أو إمام من الأئمة؟ وما الذي يدفعه إلى اعتناق هذه الفكرة أو الالتزام بذلك المنهج؟ المفروض أن الدافع وعنصر الانشداد هو طلب الحقيقة والوصول إلى الرأي الأصح والأصوب عقائديا وتشريعياً لإحراز براءة الذمة ورضا الله سبحانه وتعالى، حيث يتفتح وعي الإنسان المسلم في هذه الحياة فيرى أمامه عدة مناهج وطرق في فهم عقائد الإسلام وتحديد جزئيات أحكامه، وعند الاختلاف فان الحق لا يتعدد خلافا لما يراه المصوبة، فإذا ما جمان هناك أكثر من رأي حول قضية واحدة فلا بد أن بعضها مصيب والآخر مخطئ ، كما أن نسبة الصواب والخطأ قد تكون نسبية بين الآراء وعلى أحسن الفروض فان هناك صحيح وأصح وصائب وأصوب، مع قطع النظر عن معذورية المخطئ بل وثوابه ما دام مجتهدا قد بذل غاية وسعه فإن المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد.
وهنا يفترض في المسلم أن يدرس ويتأمل المذاهب والمناهج المطروحة في الساحة الإسلامية ويعتمد على عقله وتفكيره وعوامل الاستدلال والاطمئنان المتوافرة لديه لكي يختار أحد تلك المناهج والمذاهب. وهذا يعني أمرين: الأول: إتاحة الفرصة وتوفر المجال للاطلاع على مختلف الآراء والمذاهب بأن تسود أجواء المجتمع حرية فكرية ثقافية، يتمكن الإنسان عبرها من التعرف على جميع الطروحات والآراء، وهذا ما كان متداولا ومعروفا في العصور الإسلامية الأولى، حيث كانت تتعدد حلقات الإفتاء والتدريس في المساجد العامة وفقا لتعدد المذاهب واختلاف الأئمة، كما كانت تنعقد جلسات المناظرة والحوار وتتداول كتب العقائد والحديث والفقه على رأي مختلف المذاهب والمدارس.
بالطبع فإن حرية الفكر والثقافة حق طبيعي للإنسان ومبدأ أساسي من مبادئ الإسلام، وإذا ما انعدمت هذه الحرية الفكرية واستبد بالساحة مذهب واحد ورأي فكري واحد مع حظر باقي المذاهب وقمع سائر ا!دارس ف!نه لا يمكن للمسلم أن يطمئن إلى صحة اختياره وانتخابه للمذهب المفروض عليه بشكل غير مباشر. الثاني: اهتمام المسلم بالبحث الموضوعي وتجرده عن دواعي التعصب والمصلحة، ذلك أن الكثيرين لا يجدون دافعا للبحث والاهتمام مكتفين بما يجدون عليه عوائلهم وأهاليهم، وما يسود في مجتمعهم وبيئتهم. وإذا ما تجاوزنا المسألة الذاتية ومسؤولية الإنسان تجاه نفسه بالبحث عن الحق لاعتناقه والتزامه، فان هناك قضية أخرى ترتبط بموقف الإنسان تجاه الآخرين وإصداره الأحكام على معتقداتهم ومذاهبهم حيث لا يصح له الإطلاق من الجهل والتسرع دون معرفة واطلاع للحكم على الآخرين ، يقول تعالى: ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) .
إن من أهم عوامل الصراع وسوء التفاهم بين أتباع المذاهب الإسلامية هو الجهل المتبادل وعدم الانفتاح الفكري فيما بينهم حتى على مستوى العلماء والقيادات، حيث يحتفظ كل طرف لنفسه بانطباع وموقف سلبي تجاه الطرف الآخر، دون أن يكف نفسه عناء البحث والتأكد من صحة انطباعه وموقفه وكأنه ليس مسؤولا أمام الله عن سوء ظنه بالآخرين وخطأ حكمه عليهم، أو غير مدرك لما ينتجه هذا الموقف الجاهلي من أخطار وتبعات على وحدة الأمة وتماسك صفوفها. وهذا الجهل وعدم الانفتاح بين المذاهب هو الذي يتيح الفرصة للأعداء والمغرضين ليصطادوا في الماء الحكر، وليشوهوا سمعة كل مذهب أمام المذاهب الأخرى، وليعبئوا كل طائفة تجاه الطوائف ا لأخر ى. يقولا أحد العلماء اللبنانيين وهو يتحدث عن دور الجهل في تعميق الخلاف الطائفي بين السنة والشيعة ما يلي: (وظني أن الكثير من المسلمين لو اطلعوا على ما عليه الشيعة لم يكن منهم إلا المودة والإخاء، حدثني بعض أهل العراق فقال ما مضمونه: لما جاء الترك بجيشهم لمقابلة الإنكليز محاماة عن العراق من جهة البصرة في الحرب الكبرى وكان في جيشهم من ديار بكر والموصل من لا يعرف الشيعة فلما رأوا من علماء الشيعة ورجالها ما رأوا من التزامهم بالصلاة وغيرها من العبادات وإخلاصهم في المدافعة عن بيضة الإسلام وكيان المسلمين، وتفانيهم في المحاباة عن دينهم أخذ يقول بعضهم لبعض العراقيين: إنا ما كنا نعرف الشيعة، ف!ن كان أنتم شيعة فنحن كلنا شيعة). وأعجب من ذلك ما حدثني به بعض الفضلاء عن أحد أعلام الشيعة عن رجل من علماء نابلس انه قال له: (كنا نتقرب إلى الله بدم الشيعي والآن صرنا نتقرب إلى الله بحب الشيعي) ويبدو أن هناك إشكالا عميقا يكمن في مناهج الدراسة في الحوزات والجامعات والمعاهد الدينية، حيث تقتصر كل مؤسسة على تدريس اتجاه معين في العقائد والفقه والعلوم الدينية متجاهلة سائر الاتجاهات والمذاهب، والأخطر من ذلك هو تعبئة الطلاب في كل معهد ديني ضد ما يخالف مذهبه ومنهجه عبر أسلوب التهريج والإسقاط والدعاية السوداء، فيتخرج طلاب العلوم الدينية بفكر منغلق وعقلية ضيقة جاهلين بالرأي الآخر منحازين بتعصب ضده.
ولقد حدثنا التاريخ إن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رأى- قبل أخذه شهادة التدريس- أن يطالع مع بعض الطلاب كتبا منها (شرح العقائد النسفية) للتفتازاني مع حواشيه، وسوغ لنفسه في أثناء ذلك أن يرجح مذهب المعتزلة في بعض المسائل الكلامية، على مذهب الأشعرية، فقامت لذلك ضجة كبرى في الأزهر ووصل الأمر إلى المرحوم الشيخ عليش الكبير، وكان رجلا، حاد المزاج، سريع الغضب، شديد الغيرة على ما يعتقد، فهاج وماج، وأرسل إلى الشيخ محمد عبده، وكلمه في ذلك كلاما شسديدا، وتعصب للشيخ عليش في ذلك طلاب من الأزهر وعلماء، حتى كان الشيخ عبده يفطر إلي اصطحاب عصا معه وهو يقرأ الدرس خوفا على نفسه من اعتداء ذوي العصبية . ويشير العلامة الشيخ محمد جواد مغنية إلى هزه الملاحظة الهامة في مقالة نشرتها مجلة (رسالة الإسلام) المصرية عدد تشرين 1952 م بقوله. (إن الشريعة الإسلامية لم تستخرج من الوهم والخيال بل لها أصول مقررة لا يختلف عليها مسلمان مهما كان مذهبهما وانما الخلاف الجدال بين المذاهب حصل فيما يتفرع عن تلك الأصول، وما يستخرج منها فالحلاقة بين أقوال المذاهب الإسلامية هي العلاقة بين الفرعين المنبثقين عن أصل واحد. ونحن إذا أردنا معرفة إن هذا المذهب على حق في أسلوبه واستخراج ا!كم من مصدره في ون سائر المذاهب فعلينا أن نلاحظ جميع الأقوال المتضاربة حول الحكم وندرسها بطريقة حيادية بصرف النظر عن كل قائل وعن منزلته العلمية والدينية، ثم نحكم بما يؤدي إليه الأصل والمنطق على نحو لو اطلع عليه أجنبي لاقتنع بأنه نتيجة حتمية للأصل المقرر، وبهذا نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أما من يطلع على قول مذهب من المذاهب، يؤمن به ويتعصب له، لا لشيء إلا لأنه مذهب آبائه ويحكم على سائر المذاهب بأنه بدعة وضلالة فهو مصداق للآية الكريمـــــة ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه اباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ).
وأي فرق بين رجل أفنى العمر في حفظ معتقدات أبيه ودرسها، لا يتجاوزها قيد أنملة، ورجل لم يقرأ ولم يكتب ولم يدرس شيئا ولكن تكونت له من بيته وبينته عادات ومعتقدات؟ أي فرق بين الرجلين حتى يقال: ذاك عالم، وهذا جاهل؟ وليس العالم من وثق برأيه ومعتقدات آبائه ، وكانت له المقدرة التامة على المحاورة والمداورة، وإنما العالم من فصل الواقع عن ذاته وعاطفته، وفكر تفكيرا حرا مطلقا، لم يتعصب لرأي على رأي، بل يقف من كل قول موقف الشك والتساؤل وان كثر به القائلون وآمن به الأقدمون. إن احترام العالم يقاس باحترامه للحقيقة، فهي ضالته أينما وجدت ولقد أثبتت التجارب إن الاختصاص بعلم من العلوم يحتاج إلى ثقافة عامة ومعرفة نظريات ومبادئ علوم شتى، فكيف يكون الإنسان متخصصا بعلم وهو لا يعرف عنه إلا قول عالم يخالفه فيه كثير من العلماء؟ وأستطيع التأكيد إن من الأجانب من يعرف عن الإسلام وتاريخه وشريحته ورجاله وعقائدهم ما لم يعرفه كثير من متخرجي الأزهر النجف. وانه لغريب إن تقوم جامعتان لهما تاريخهما وغمتهما، احداهما في العراق والثانية في مصر، يبحثان في موضوع واحد، ويهدفان إلي شيء واحد: إلى نشر الشريعة الإسلامية ثم لا يكون بينهما أي نوع من أنواع التعارف والتعاون. إن في كتب الشيعة الإمامية اجتهادات لا يعرفها الخواص من علماء السنة، ولو اطلعوا عليها لقويت ثقتهم بالشيعة وتفكيرهم، وكذا الشأن بالقياس إلى كتب السنة وعلماء الشيعة، إن اطلاع كل فريق على ما كند الآخر من أقوى البواعث على تمهيد السبيل للتقريب بين الأخوة، ص حيث يريدون أو لا يريدون) . وقبل الشيخ مغنية بعدة قرون كان العلامة الشاطبي المتوفى سنة 795 هـ يقرع جرس الإنذار هذا بقولة: (إن تعويد الطلاب كلى إن لا طلع إلا على مذهب واحد ربما يكسبه ذلك نافورا وإنكارا لكل م!هـ ب في مذهبه ما دام لم طلع على أدلته، فيورثه ذلك حزازة في الاعتقاد في فضل أئمة أجمع الناس على فضلهم) .
ووصل الجهل بين المسلمين ببعضهم البعض إلى حد اعتقد فيه بعض ا!صبين أن هناك فوارق تكوينية بين الشيعة وباقي المسلمين وان للشيعة ذنبا في سفل أجسامهم؟ فهل يضحك الإنسان أم يبكي لهذا الجهل المفرط والمتعصب الحاقد. وهناك طريفة ينقلها الاصفهاني في كتابه (المحاضرات) إذ يقول : سئل رجل كان يشهد على آخر بالكفر عند جعفر بن سليمان، فقال: انه معتزلي ناصبي حروري جبري رافضي ، يشتم علي بن الخطاب، وعمر بن أبي قحافة، وعثمان بن أبي طالب، وأبا بكر بن عفان، ويشتم الحجاج الذي هدم الكوفة على أبي سفيان، وحارب الحسين بن معاوية، يوم القطائف!! فقال له جعفر بن سليمان: قاتلك الله. ما أدري على أي شيء أحسدك؟ أعلى علمك بالأنساب؟ أم بالأديان؟ أم بالمقالات؟ وقد لعب بعض الكتاب والمفكرين دورا مثيرا في تكريس حالة الجهل والتضليل الإعلامي لدى كل مذهب تجاه سائر المذاهب، حيث يقدم أولئك الكتاب صورة خاطئة تنطوي على الجهل والمغالطات عن هذا المذهب أو تلك الطائفة، أما لغرض في نفس الكاتب أو لاعتماده على المصادر المعادية والمناوئة للجهة التي يكتب عنها، أو لتقصيره في البحث والمر ا جعة. فمثلا : حينما يطلع القارئ على كتاب (كشف الظنون على أسامي الكتب والفنون) لمؤلفه الشيخ مصطفى بن عبد الله الحنفي (1017 هـ- 1067 هـ) والمعروف بالحاج خليفة فانه سيعتبره مرجعا ومصدرا في موضوعه، لما فيه من دلالة على سعة اطلاع المؤلف وتقصيه للكتب وفنون المعارف، ولكن القارئ سيصاب بالدهشة حينما يقرأ ما كتبه المؤلف عن المذهبين الأمامي الشيعي والشافعي حيث مزج بينهما بشكل غريب ولننقل جزءا من نصه: قال: (والكتب المؤلفة على مذهب الإمامية الذين ينسبون إلى مذهب أبن إدريس، أعني الشافعي رحمه الله ، كثيرة، منها شرائع الإسلام، والذكرى والقواعد، والنهاية… الخ). وقال عند تفسير الشيخ الطوسي، فقيه الشيعة: (هو أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي فقيه الشيعة الشافعي، كان ينتمي إلى مذهب الشافعي المتوفى سنة 460 هـ سماه مجمع البيان لعلوم القران) .
هذا الخلط والخطأ الذي وقع فيه مؤلف كشف ا!نون لضعف اطلاعه أو عدم دقته في البحث أصبح نظرية يتناقلها بعض الكتاب المعاصرين دون بحث أو تمحيص كالمحامي صبحي محمصاني الذي كتب عن المذهب الشيعي قائلا: (وهذا المذهب لا يختلف كثيرا عن المذهب الشافعي في فروع الفقه) .
وحتى الذين كتبوا في الفرق والمذاهب لم تأت أغلب كتاباتهم وفقا لقواعد التحقيق الموضوعية والبحث، كما هو الحال! في كتاب (الفرق بين الفرق) لأبي منصور البغدادي، وكتاب (الملل والنحل) للشهرستاني، وكتاب (التبصير) للاسفرائيني، وكتاب (الفصل) لأبي حزم الظاهري.
يقول الرازي عند ذكره لكتاب (الملل والنحل) للشهرستاني: إنه كتاب حكى فيه مذاهب أهل العالم بزعمه، ألا انه غير معتمد عليه لأنه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمى ب (الفرق بين الفرق) من تصانيف الأستاذ أبي منصور البغدادي وهذا الأستاذ كان شديد التعصب على المخالفين، ولا يكاد ينقل مذهبهم على الوجه الصحيح، ثم إن الشهرستاني نقل مذاهب افرق الإسلامية من ذلك الكتاب فلهذا السبب وقع فيه الخلل في نقل هذه المذاهب.
ويسجل الشيخ محمد شلتوت شيخ الجامع الأزهر هذه الملاحظة على كتب الفرق بقوله:
لقد كان أكثر الكاتبين عن الفرق الإسلامية متأثرين بروح التعصب الممقوت، فكانت كتاباتهم مما تورث نيران العداوة والبغضاء بين أبناء الملة الواحدة، وكان كل كاتب لا ينظر إلى من خالفه إلا من زاوية واحدة هي تسخيف رأيه، وتسفيه عقيدته بأسلوب شره أكثر من نفحه، ولهذا كان من أراد الأنصاف لا يكون رأيه عن فرقة من الفرق إلا من مصادرها الخاصة ليكون هذا أقرب إلى الصواب وأبعد عن الخطأ) .
وقال السبكي في الطبقات عند ذكره لكتاب (الملل والنحل) للشهرستاني: (ومصنف ابن حزم أبسط منه إلا أنه مبدد ليس له نظام، ثم فيه من الحط على أئمة السنة ونسبة الأشاعرة، إلى ما هم بريئون منه، ثم إن إبن حزم نفسه لا يدري علم الكلام حق الدراية على طريق أهله) .
كما أن لكتابات المستشرقين دورا سيئا في تضليل أفكار المسلمين وتشويه نظرتهم تجاه بعضهم البعض، وكما هو معروف فإن هناك أهدافا سياسية مغرضة وراء حركة الاستشراق، لا بد أن يكون تمزيق شمل الأمة الإسلامية وتعميق الخلافات في صفوفها واحداً من أبرز تلك الأهداف التي تسعى حركة الاستشراق لتنفيذها ثقافيا، من هنا جاءت كتاباتهم عن المذاهب والفرق تخدم هذا التوجه، ومؤسف جدا أن تكون كتاباتهم مصادرا ومراجعا يعتمدها بعض المؤلفين المسلمين لتقييم التيارات والمدارس الإسلامية.
ومما يثير الدهشة والاستغراب إن بعض الكتاب يحترفون بعدم اطلاعهم على آراء وكتب الطرف الآخر ولكنهم مع ذلك يسمحون لأنفسهم بإصدار الحكم واتخاذ الموقف المضاد من ذلك الطرف الذي لم يسمحوا منه ولم يطلعوا على حجته، فالعلامة إبن خلدون في مقدمته الشهيرة يعلن إعراضه وعدم قراءته لكتب بعض المذاهب كالشيعة والخوارج ولكنه مع ذلك يكيل لهم القدح والتهم والطعن، قال ما نصه:
(وشذ بمثل ذلك الخوارج ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح، فلا نعرف شيئا من مذاهبهم ولا نروي كتبهم، ولا أثر لشيء منها الا في مواطنهم، فكتب الشيعة في بلادهم وحيث كانت دولتهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن، والخوارج كذلك، ولكل منهم كتب وتآليف وآراء في الفقه غريبة).
إننا نعيش الآن عصر العلم والمعرفة، وازدياد حالة الفضول لدى الإنسان للاطلاع على خبايا الكون والحياة، والتعرف على أوضاع الشعوب والقبائل النائية والبعيدة، فهل يصح لنا أن نجهل بحضنا البعض وينغلق كل منا على مذهبه ومعتقداته دون أن يوسع أفق معلوماته بدراسة سائر الآراء والمذاهب والاطلاع على مختلف التيارات والمدارس ، لإسلامي!.؟.
وكما ينبغي لكل قادر واع أن يسعى للمعرفة والاطلاع، فان على اتباع المذاهب إن يعملوا لتعريف مذاهبهم وتبيين وجهات نظرهم دفعا للتهم والشبهات، فالناس أعداء ما جهلوا.
إن ساحتنا الفكرية تعاني من الجمود والتقوقع والإرهاب فلا بد لنا من نهضة ثقافية فكرية نرتفع بها إلى مستوى الانفتاح العلمي والتحرر الفكري والتنافس المعرفي الهادف، حتى تتفجر الطاقات والمواهب وتتبلور الأفكار والآراء، ونستفيد من إيجابيات كل المذاهب الإسلامية لتقديم صورة مشرقة عن الإسلام العظيم للعالم، ولبناء أسس حضارة إسلامية جديدة ترتقبها كل جماهير؟ متنا بشوق ورجاء.
إننا بحاجة إلى مؤسسات علمية فكرية تدرس قضايا الدين والحياة على ضوء مختلف المذاهب الإسلامية، وإلى معاهد ومؤتمرات وندوات تخصصية لمناقشة موارد الاتفاق والاختلاف بين طوائف المسلمين بروح موضوعية أخوية.
مُب مقصر ..
موفق (=
تم تقييمك ^^