تخطى إلى المحتوى

معلومات عن الشاعر علي الجازم للصف التاسع 2024.

  • بواسطة

خليجيةخليجية……… ممكن معلومات عن الشاعر علي الجارم ……….. شكرا لاهتمامكم خليجيةخليجية

تفضل

في ذكرى شاعر العروبة و الإسلام

علي الجارم

في مثل هذا الشهر من كل عام تمر ذكرى رحيل أحد فحول شعراء العربية في العصر الحديث وتحديدا في الثامن من فبراير
1949م، إننا بصدد ذكرى الشاعر الكبير "علي الجارم"
وإن شئت قل الأديب اللامع فقد جمع الجارم بين
موهبة الشعر وموهبة النثر، فكان نثره لا يقل عن
شعره روعة وقوة وجمالاً وبيانًا، وكتب الأقصوصة
والقصة والرواية الطويلة ، يكمل الصورة حينما نذكر
ما نعته به الوسط الأدبي إذ لقبوه بشاعر العروبة
والإسلام لأنه كرس قلمه للدفاع عن الأمة العربية
وهذا الدين العظيم.
سنواته الأولى في مدينة رشيد
ولد علي صالح عبد الفتاح الجارم سنة 1881م في
مدينة رشيد بمحافظة الجيزة بمصر ، وكان يحب
مدينته وكتب يقول فيها :
أولى قصائد الجارم كانت بعنوان "الوباء"
عام 1895م،
عندما اجتاحت جرثومة "الكوليرا" بلده رشيد
وحصدت الأرواح، وقد قال فيها مخاطبًا هذا المكروب اللعين:
العلم ميزان الحياة عند الشاعر
تعلم الجارم في الأزهر ودار العلوم وتخرج منها
سنة 1908، ثم بعث على انجلترا فأقام سنة
بمدينة توتنجهام درس اللغة الإنجليزية ، وكان
محبا للعلم بصورة كبيرة مرددا :
ومن النوادر أنه في عام 1910م شاهد الضباب
في إنجلترا يتكاثف، فإذا المبصرون أنفسهم يضلون
الطريق حائرين، وإذا العميان يقودونهم خلال هذا
الضباب، فكتب يقول :
التحق الجارم بالكلية الجامعة بـ اكستر ومكث
بها ثلاث سنوات درس خلالها علم النفس
وعلوم التربية والمنطق والأدب الإنجليزي،
حصل على إجازة في كل المواد وعاد إلى
مصر في أغسطس سنة 1912 ، ثم عين
مدرسا بمدرسة التجارة المتوسطة ثم نقل
منها بعد سنة على دار العلوم مدرسا لعلوم
التربية، في مايو سنة 1917 نقل مفتشا بوزارة
المعارف..ثم رقي إلى وظيفة كبير مفتشي
اللغة العربية وظل فيها حتي 1940 حين نقلا
وكيلا لدار العلوم وظل فيها إلى أن أحيل إلى
المعاش سنة 1942.

ابنه أحمد علي الجارم وهو طبيب وأستاذ الأمراض
الباطنة بكلية الطب جامعة القاهرة 1972 ،
أنشأ قسم الأمراض المتوطنة بكليات الطب
بجامعة القاهرة وطنطا والأزهر ، عضو مجمع
اللغة العربية 2024 ، أعاد طبع الأعمال
الشعرية والنثرية والأدبية واللغوية الكاملة
للمرحوم والده الشاعر الكبير.
تراث شعري ونثري فريد عن الجارم
كان أديبا موسوعيا متعدد المواهب، جمع
بين موهبة الشعر والنثر الأدبي.. فكان شاعرًا
وقاصًا وروائيًا وناقدا ولغويا ونحويًا وتربويًا،
عاصر كبار الشعراء والأدباء مثل شوقي وحافظ
وطه حسين ومطران، وأسهم بزاد وافر في مجال
الشعر والقصة والبلاغة والتاريخ الأدبي ،
تفرغ الجارم للأدب بعد إحالته على المعاش
وحينما انشأ ..مجمع اللغة العربية كان من
أعضائه المؤسسين، وكانت له جهود في التعريب
, إذ عرب كتاب
"قصة العرب في أسبانيا".
وأسهم في التأريخ للأدب العربي بتأليفه كتاب
"تاريخ الأدب العربي" مع آخرين، وفي مجال
اللغة ألف الكثير من الكتب منها "النحو الواضح"
و"البلاغة الواضحة", ترك الجارم تراثا نثريا يكاد
يزيد عن تراثه الشعري كما أن بعض معاصريه
اعتبروا رواياته التاريخية أهم من نثر أحمد شوقي
وكان أبرزها الأعمال النثرية الكاملة التي صدرت في
القاهرة عن الدار المصرية اللبنانية وتقع في 1040
صفحة تضمها ثلاثة مجلدات.
وقال أحمد علي الجارم – نجل
الأديب الراحل- في مقدمة الجزء الأول
إن والده كتب عشر روايات، مشيرا إلى أن
ما اعتبره تأخرا في اهتمام الدارسين بتراث الجارم
يعود إلى عدم إتاحة أعماله لفترة زمنية طويلة،
حين منعت الرقابة العسكرية إبان حكم الرئيس
المصري الراحل جمال عبد الناصر إعادة طبع مؤلفات
الجارم بالإضافة إلى "مؤامرة الصمت" التي
حيكت حوله في هذا العهد.
وضم المجلد الأول روايات فارس بني حمدان التي كتبها
في العام 1945 والشاعر الطموح المتنبي وخاتمة
المطاف في نهاية المتنبي ، في حين ضم المجلدان
الثاني والثالث قصتي الفارس الملثم (1949) والسهم
المسموم التي نشرت عام 1950 بعد وفاته إضافة
إلى روايات مرح الوليد في سيرة يزيد الأموي ،
وسيدة القصور آخر أيام الفاطميين في
مصر(1944) وغادة رشيد التي كانت في
السنوات الماضية مقررة على طلاب
المدارس الثانوية في مصر وتتناول
كفاح الشعب ضد الاستعمار الفرنسي
(1798 – 1801)، رواية هاتف من الأندلس
(1949) وشاعر ملك قصة المعتمد بن
عباد إضافة إلى ترجمته عام 1944 لكتاب
المستشرق البريطاني أستانلي لين بول
وعنوانه "قصة العرب في إسبانيا".
كما ترك الجارم أعمالا مثل المعارضات في
الشعر العربي، شارك في تأليف كتب أدبية
منها المجمل في الأدب العربي، المفصل
في الأدب العربي، النحو الواضح في 6
أجزاء بالاشتراك مع زميله الأستاذ مصطفي
أمين إبراهيم، البلاغة الواضحة جزآن بالاشتراك
مع زميله الأستاذ مصطفي أمين إبراهيم أيضا،
علم النفس وآثاره في التربية والتعليم بالاشتراك
مع نفس الزميل وكان هذا الكتاب من أوائل الكتب
التي ألفت بالعربية في علم النفس .
أبيات تقطر حباً للإسلام
كان الإسلام محورًا لأغلب أعمال علي الجارم، إذ
استوحى في رواياته وقصصه وأشعاره العديد
من المعاني القرآنية، واستمد من السيرة
النبوية
المطهرة والتاريخ الإسلامي أروع إبداعاته،
مثل "هاتف من الأندلس" و"غادة رشيد"
و"الشاعر الطموح".
نقرأ له جزءا من قصيدة يشدو فيها حبا للإسلام
والنور الذي عم البشرية بسيد الخلق محمد – صلى ا
لله عليه وسلم – تقول :
ويقول :
الجارم ..عروبة حتى النخاع

لقد كان علي الجارم عاشقًا للغة القرآن
الكريم، احتفى بها في زمن سعى الاستعمار
فيه إلى الحد من قوتها عبر عمليات غسيل
مخ لأدمغة أناس، اعتقدوا أن لغتهم تحول دون التقدم،
فدعوا إلى إحلال الحروف اللاتينية محل حروفها،
وكان يرى أن اللغة العربية هي المدخل الطبيعي
لوحدة الأمة العربية، فهو القائل :
ولعل من أبرز قصائده قصيدة "العروبة" التي جاءت
من 77 بيتا، وألقاها في مؤتمر الثقافة العربي
الأول الذي أقامته الجامعة العربية في لبنان عام
1947م، وجاء فيها :
ويقول :
ويقول أيضا :
نستمع له في افتتاح دورة الانعقاد الثالث
لمجمع اللغة العربية يردد :
كان علي الجارم كما وصفه معاصروه شاعر العروبة
والإسلام، فقد عايش قضايا أمته وتفاعل معها، وجاءت
أروع النماذج الشعرية معبرة عن انتمائه الوطني والقومي
والإسلامي، فنجد قصيدته "فلسطين" التي بلغت
ثلاثة وسبعين بيتًا، منها :
ويقول :
ويستعرض الجارم في مقدمته حياة وآثار العرب
في الأندلس التي يراها عجيبة ومثيرة أيضا
حيث يشير إلى أن العرب عاشوا في الفتن
نحو 800 عاما قل أن تستطيع أمة سواهم
البقاء في مثلها وينفي الجارم على سبيل المثال
عن العرب تهمة الهدم وعدم التحضر مشددا
على أن الهدامين لآثارهم ومدنياتهم إنما هم
أعداؤهم من البربر والإفرنج والتتار.
شاعر إنسان
كتب الجارم أشعارا كثيرة في وصف الطبيعة
الغناء بربوع الوطن العربي وجمالها ولعلنا نختار
واحدة من أروع ما سطر يخاطب فيها طائر بقوله :
أما الموت فيقول عنه :
جوائز حصل عليها
قدر العالم العربي على الجارم حق قدره
فمنحته مصر وسام النيل 1919 والرتبة الثانية
سنة 1935 ، انعم عليه العراق بوسام الرافدين
سنة 1936 وانعم عليه لبنان بوسام الأرز من رتبة
كومندور سنة 1947 ، توفي بالقاهرة فجأة وهو
مصغ إلى أحد أبنائه يلقي قصيدة له في حفل تأبين
محمود فهمي النقراشي وذلك عام 1949م .

م/ن

والسموحه تم تغير العنوان ليتناسب مع فحوى الموضوع ..

بالتوفيق

وايضا هذا ..

الشاعر الكبير علي الجارم رحلة الحياة والريادة (2)

بقلم: إبراهيم أمين الزرزموني

أسفاره :

سبق أن أشرنا إلى خوف المثقفين من أن تنتقل إمارة الشعر من مصر إلى إحدى الدول العربية بعد وفاة شوقى وحافظ ، ولكن العناية الإلهية شاءت أن تحفظ لمصر ريادتها وأوليتها المستحقة على يد الجارم وأمثاله.
فلقد كان للجارم قصب السبق فى كل الميادين التى خاضها، إذ كان الجارم يتصدرالميدان مع شوقى وحافظ ، فلما خلا الميدان من شاعر فحل متمكن من مدرسة الراحلين الكريمين ، لم يكن لها غير الصداح الغريد الجارم ليسد الفراغ باقتدار، وليكون – عن جدارة – ممثل مصر الرسمى فى المحافل العربية .
وقد أشرنا إلى سفره مبعوثاً إلى إنجلترا للدراسة من سنة 1908: 912ام . ونشير الآن إلى أسفاره العديدة الأخرى . فلقد سافر " إلى بغداد أربع مرات : فى رثاء الزهاوى فى فبراير 1937م ، وفى افتتاح المؤتمر الطبى العربى سنة 1938م ، وفى تأبين الملك غازى سنة 1939م ، كما أسهم فى الصلح بين قبيلتى " شمر" و "العبيد " فى نفس العام .
وسافر إلى لبنان أكثر من مرة : فى سنة 1934م ، وفى افتتاح ا لمؤتمر الطبى ببيروت سنة 1944م ، ومؤتمر الثقافة ببيروت سنة 947ام .
وسافر إلى السودان كثيراً للإشراف على امتحانات المدارس المصرية … ومن أشهر زياراته للسودان زيارته الأول سنة 1937م ، وزيارته فى سنة 1941م ( ).
ولنستعرض – فى عجالة – بعض ما قاله الجارم فى هذه الأمفار المتعددة ، والتى جعلت من اسمه مناراً يردده الوطن العربى بعد كل فتح – أعنى قصيدة – يعلى الجارم بناءه . ففى افتتاح المؤتمر الطبى العربى سنة 1938م ، يلقى الجارم قصيدة (بغداد)، وهى من أروع قصائد الشعر الحديث حيث تحول الجارم فيها ما بين تاريخ بغداد القديم والحديث ، وكلاهما – عنده – زاهر مشرق كما تطرق لعلاقة بغداد بالعروبة، واستنهض – كعادته – همم أبناء العروبة ليعيدوا المجد العربى التليد ومنها :
ومنارة المجد التليد! بغداد يا بلد الرشيد !
زهراء فى ثغر الخلود يا بسمة لما تزل
ومضرب المثل الشرود يا موطن الحب المقيم
خط فى لوح الوجود يا سطر مجد للعروبة
ـلام خفاق البنود( ) يا راية الإسلام ، والإســ
والقصيدة تقع فى تسعة وسبعين بيتاً من المعانى الصافية ، والموسيقى الخلابة (مجزوء الكامل ) والتنقل الرشيق بين أزهار المعانى المختلفة . هذا وقد ترجمت هذه القصيدة إلى اللغة الإنجليزية فى كتاب (الأدب العربى الحديث من 1800: 1970 ) بقلم الأستاذ جون أ. هايوود عام 1971م ( ). ويصف المؤلف الإنجليزي ، الجارم وقصيدته المذكورة قائلا : " إنه قدم شعرا من أجمل ما كتب فى العربية ، … وكانت قصيدته فى بغداد من أجمل ما كتب " ( ) .
وينقل الدكتور محمد رجب البيومى تعليقا لشاهد عيان على القصيدة السابقة ، ألا وهو الدكتور زكى مبارك (1890 – 1952م ) ، الذى كان يعمل مدرسا بالعراق وقت إلقاء الجارم لقصيدة (بغداد)، وعلى الرغم من وجود عداء من الدكتور زكى مبارك للجارم ، إلا أنه لا يملك – فى كتابه ليلى المريضة بالعراق ص 132- يملك ، إلا أن يقرر عظمة الجارم فى قصيدته وإلقائه فيقول : " وكنت مع الأسف ذهبت إلى الحفلة ، وأنا أضمر الشر للأستاذ على الجارم ، فقد كتب فى منهاج الاحتفال ( شاعر مصر) ، وأنا أبغض الألقاب الأدبية ، فلما وقف ليلقى قصيدته ، لم أصفق ، وأعديت من حولى بروح السخرية فلم يصفقوا، لكن الجارم قهرنى وقهر الحاضرين جميعاً على أن يدموا أكفهم من التصفيق ، وغاظنى أن تصفق ليلى (عشيقة زكى مبارك ) … فيا أيها العدو المحبوب الذى اسمه على الجارم ، تذكر أنك كنت – حقا وصدقاً – شاعر مصر فى المؤتمر الطبى العربى ، وستمر أجيال وأجيال ، ولا ينساك أهل العراق ، وهل تعرف مصر أنك رفعت رأسها فى العراق ، وأنك كنت خليفة شوقى فى المعانى، وخليفة حافظ فى الإلقاء…" ( ).
ويصف الأستاذ ثروت أباظة قصيدة ( بغداد ) للجارم بأنها " من أشهر القصائد العربية فى مصرنا قصيدة (بغداد) التى ألقاها هناك ، فإذا العراق كلها ترددها فى اليوم التالى … وهى – لا شك – من عيون الشعر العربى وليس بغريب عليها ما سمعناه من إعجاب العراق بها وترديده إياها "( ).
وفى زيارة الجارم للبنان فى صيف 1944 م ، كتب قصيدته الرائعة " لبنان " :
ورجعت أغسل بالدموع جراحى ألقيت للغيد الملاح سلاحى
ذبلت نضارته على الأقداح ولمحت ريحان الصبا فرأيته
وفيها يتغزل ، ويتحسر على أيام الشباب ، ويوجه تحيته للأطباء ، ولا ينسى – كعادته – الالتفات والتنبيه لمجد العروبة وضرورة التوحد :
حلت من الدنيا بأكرم ساح لبنان مذ حلت ذراك ركابنا
أخوان فى الأتراح والأفراح الأرز فيك ، ونخل مصر كلاهما
غمر الشطوط بدمعة النضاح( ) والنيل منك فلو بكيت لفادح
وفى زيارة الجارم للسودان كتب قصيدته (السودان ) وأنشدها فى جمع حافل بالخرطوم سنة 1941م ، ونلحظ فيها حسن الاستهلال ، وبراعته :
قفى نحيك أو عوجى فحيينا يا نسمة رنحت أعطاف وادينا
ومنها قوله :
مودة كصفاء الدر مكنونا إن جزت يوما إلى السودان فارع له
وعروة قد عقدناها بأيدينا عهد له قد رعيناه باعيننا
وسلسل النيل يرويهم ويروينا ( ) ظل العروبة والقرآن يجمعنا
والجارم – فى هذه القصيدة – يعارض نونية ( شوقى ) ، ونونية ( ابن زيدون ) ونونية ( ا لمرقش ا لأكبر)، كما صرح هو فى آ خر القصيدة بقوله :
وأنت بالجنبات الحمر تسقينا يا ساقى الحى جدد نشوة سلفت
تسرق السمع شوقى وابن زيدونا واصدح بنونية لما هتفت بها
إنا محيوك يا سلمى فحيينا ( ) وأحكم اللحن يا ساقى وغن لنا
وعن إبداع الجارم فى أسفاره ، وكونه رافعا راية الشعر فى مصر، يحدثنا الأستاذ كمال النجمى قائلا : " قد بلغ ( أى الجارم ) فى أيامه منزلة شاعر مصر الرسمى الذى تنتدبه الحكومة فى محافل البلاد العربية ، فيهز الأسماع بشعره ، ويذكرهم بشوقى، ويحيى عندهم أمل الوحدة العربية كما كانوا يتصورونها فى تلك ا لأيام ! … إن أحداً من شعراء ، مصر لم يتح له أن يمثل مصر رسمياً كما أتيح للجارم الذى انتزع قصب السبق فى جميع المحافل العربية بشهادة أصحابها … " ( ) .
ويقول الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومى : فلما مثل مصر بشاعريته الحافزة ، وديباجته العربية الناصعة ، جذب الأسماع لما يقول ، لقد كان الحفل الجهير يضم أفذاذ الشعر من كل وطن عربى، ولكل شاعر منزلته دون ريب ، ولكن الجارم يقف فى الطليعة بين شعراء كبار، فتكون قصيدته مجال التقدير والملاحظة ،ويعود إلى مصر، وكأنه عاد من فتح حربى بعد أن سجل بطوله الانتصار " ( ) .
ولقد كان الجارم صادقأ عندما افتخر بشعر الذى أجمعت الأمة العربية عليه ، فأصغى له وادى النيل ، وغنت باسمه بغداد، واهتزت الشام طرباً له . يقول ا لجارم مخاطبا بلدته ( رشيد ) :
ما كل ما تحوى الخيوط نظام هذ1 وليدك جاء ينشد شعره
بغداد ، واهتزت إليه الشام ( ) أمثغى له الوادى، وعثث امثمه

الجارم والشعر :

حاول الجارم ه فى مقدمة ديوانه – أن يعرف الشعر، إلا أنه – كغيره من الشعراء والنقاد ه لم يصلوا إلى شعر الشعر، وإنما اكتفوا بوصفه ، وبيان أثره فى الأرواح . يقول الجارم : " إنى لا أريد أن أسهب فى الكلام على معنى الشعر وخصائصه ، ومبعث الروحانية فيه ، ذالك لان هذا المبحث طرقه الباحثون كثيرا، فاخفقوا …" ( ) .
ثم يقرر الجارم أن سر الشجن فى الشعر مجهول ، والذى يبحث عنه ، يضيع وقته فى غير فائدة ، بل عليه أن يستمتع بالشعر دونما بحث ، وكد ، حيث يقول : " إنك تهتز للبحترى وتطرب له ، ولكنك لا تستطيع أن تفض خاتم سحره ، ولا أن تنقل إلى نفس غيرك صدى جرسه فى نفسك" ( ).
وهو يرى « أن سحر السحر يكمن فى "اختيار النظم ، وفى إبداع التصوير، وفى وضع الكلمة فى موضعها، وفى الجرس والئغم ، ولكن أين السبيل إلى إبانة ذلك؟"( ).
ثم يفصل الرأى السابق بقوله : " ولو أردنا أن نقول فى لطف جمال الشعر، وروحانيته . وعجز الألفاظ عن الإحاطة بسره ، واماطة اللثام عن مكنون سحره ، لطال حبل الكلام ، وجاد القلم من الجادة ، ولكنا نستطيع أن نتول فى جمل قصيرة : إن جمال الشعر فى نظمه ، وجرسه ، ورنينه وفى انتقاء ألفاظه ، وتجانسها، وفى ترتيب هذه ا لألفاظ ترتيبا يبرز المعنى فى أروع صورة ، وأبدعها وفى اختيار الأسلوب الذى يليق بالمعنى ويليق به ، فمرة يكون إخبارا ، ومرة يكون استفهاما، ومرة يكون استنكاراً ، ومرة يكون نفياً، ومرة يكون تعجبا، كل ذلك يكون مع المحافظة على الأسلوب العربى الصميم ، ثم فى المعانى وابتكارها، أو توليدها من القديم فى صورة جديدة رائعة ، ثم فى الخيال وحسن تصوير ، والتزام الذوق العربى فيه ، ثم فى إحكام القافية والتمهيد لها، ثم فى اختيار البحر الذى يلائم موضوع القصيدة ، ثم فى التنقل فى القصيدة بين فنون شتى من القول مع المحافظة على الوحدة الشعرية ، ثم فى روح الشاعر وخفة ظله ، وانسياقه مع الطبع ، وتعمده لمس مواطن الشعور"( ) .
ولسنا نريد الإطالة فى عرض آرائه النثرية فى الشعر فهذا مفصل فى مقدمة ديوانه ، لكننا نقف عند مفهوم الشعر فى قصائده ، وأول ما يطالعنا قوله :
لا ترى فيه سوى إحدى اثنتين إنما الشعر على كثرته
ليس فى الشعر كلام بين بين ( ) نفحة قدسية أو هذر
إذن فالشعر – عند الجارم – لا يحتمل الرسطية ، فإما أن يكون شعرا تهتز له الأعماق ، وتطرب له النفس ، وإما هذرا لا قيمة له .
ونراه يحاول أن يعرض وجهة نظره عن الشعر، وكيف أن الشعر عاطفة وفكرة ، وهو يلهب الأرواح – عندما يلامسها – ، والشعر مصباح لمن يريد نور الحياة وهو أنشودة مرسلة من قلب إلى قلب وهو همس الغصون ، ودموع الطل ، وجيش لا يهزم ، ولا تصد جولاته :
وفكرة تتجلى بين أفكار الشعر عاطفة تقتاد عاطفة
كما تقابل تيار بتيار الشعر إن لامس الأروح ألهبها
نور الحياة وزند الأمة الوارى الشعر مصباح أقوام إذا التمسوا
إلى القلوب فتحيا بعد إقفار الشعر أنشودة الفنان يرسلها
ودمعة الطل فى أجفان أزهار الشعر همس الغصون الدوح مائسة
جلاد مرهفة أو فتك بتار ( ) الشعر للملك جيش لا يصاوله
وهو يفصل فى بقية الأبيات أن الشعر يغزو، وينتصر فى معركة لا جراح فيها، ولا قتلى لأن الأعداء يفرون عند سماعه ، ولا يقفون للقتال ، ثم يبين أن حسان بن ثابت – t – كان جيشاً أشد من جيوش الزحف ، وأن ملك بنى أمية لم يزدهر إلا بالشعر، وكذلك ملك العباسيين فالخلود فى الشعر لا فى غيره حيث يحتوى على الحكمة التى هى حديث سائر على مرور الأيام " ( ).
وإذا ما حاولنا استقراء آراء الجارم عن الشعر فى قصائده ، وجدناه من أنصار الفن الذى يخدم المجتمع بكافة فئاته وطوائفه ، ولم يكن الجارم من أنصار الفن للفن ، لان الشعر- عنده – ذو رسالة سامية عليه أن يؤديها" ( ) .
فالجارم من الشعراء الملتزمين بغاية الفن التى تقوى روح المجتمع البناءة ، وتعدل السلوك الشائن ، وتدعو لمكارم الأخلاق . يقول الجارم :
ذخيرة وأعز بند الشعر للأملاك خير
ما شئت من خيل وجند ولرب قافية بها
ولا بعد ببعد تسرى فلا صعب بصعب
بين الواكب من مصد تثب الجبال ومالها
وعدة للمستعد الشعر زند للقوى
دان المهند بالفرند ( ) كم زان من ملك كما أن
والجارم يحب أن يسمى شعره (وحياً ) ، ويرفض أن يسمى ( قصيداً )
ورآه من لا يحس قصيدا ( ) قد رآه مثقف الحس وحيا
وإذا كان الجارم يعتبر شعره وحياً ، فإن هذا يقودنا إلى سؤال : كيف كان يؤلف الجارم شعره ؟ لقد حدثنا الجارم نفسه فى شعره من عملية الخلق ، وكيف كان الشعر يراوغه حيناً، ثم يواتيه فى النهاية سلساً طيعاً مغرداً ، حيث كانت عرائس خياله ذلولة ، لمليفة ، لينة ، سهلة القيادة.
يقول الجارم :
أحظى بها بالغائب المفقود وأعيش فى دنيا الخيال لأننى
والنجم يلحظنا بعين حسود كم ليلة سامرت شعرى لاهيا
فيلين بعد تنكر وجحود حينا يراوغني فانظر ضارعا
ويعافه سمع الحسان الخود( ). طهرته من كل ما تأبى النهى
فالأمر لا يعدو بالنسبة لشاعرنا مسامرة ، يحاول فيها القريض أن يتأبى، لكنه -بنظرة ضارعة حانية من الشاعر. يلين فيعطى القياد .
يقول الدكتور محمد عبد المنعم خاطر: " أما عملية الخلق فلقد تحدث عنها فى أكثر من موضع ، وحديثه لم يخرج من عملية الخلق تتم فى هدوء الليل حيث كان يجلس فى إحدى حجرا ت داره وفى يده قلم يخط به كلمات يثبتها حينا، ويشطب فوقها حيناً، ثم يقف مفكراً حينا وعيناه ذاهلتان فى السقف ، وفى أرجاء الحجرة كأنه يتلقف الهدوء على استهواء ، عرائس خياله المراوغة ، بالضراعة حيناً، وبالتغريد أحيانا، فتلين له ، وتنثنى عائدة إليه ، فيمسك بالقادمتين بعد أن تكون قد وقعت فى شراكه ( ).
والمتأمل لشعر الجارم يجزم بأنه من مدرسة أحمد شوقى أمير الشعراء، أقصد من مدرسته فى التأليف القائم على البديهة والارتجال ، لا الصنعة والتكلف ، إذ تحس أن شعر الجارم سلس متتابع فى يسر كأنه قطرات الماء تسير فى جدولها المتدفق ، ولا تحس بلفظة نافرة ، أو قلقة ، أونابية مما يؤكد لديك الشعور أن شعر قائم على البديهة بصفة عامة.
والذى يؤكد رأينا السابق ما يرويه الأستاذ طاهر الطناحى، من أنه سأل الأستاذ الجارم – رحمهما الله – عن سر إعجاب الناس بشعره . وإلقائه ، فقال الجارم : " اعتدت حين أنظم الشعر ألا أستعين عليه بالكتابة ، بل بالحفظ والترجيع ، فإذا خطرت لى الفكرة . وألهمت بيتاً ، أخذت أتغنى به حتى ارتحت إلى معناه ومبناه ، نظمت فير وتغنيت به إلى أن تتم القصيدة وقد حفظتها جيدا فأعيد إنشادها بينى وبين نفسى لأقف على مواضع قوتها وضعفها، فأهذب ما يحتاج إلى تهذيب وأعود إلى إنشادها مراراً . فإذا وقفت فى الحفل ألقيها على الحاضرين وقد تمكنت منها، وجدت من إقبالهم على الاستماع إلى شعرى ما يثير فى نفسى قوة كامنة لا أستطيع التعبير عنها، فأنطلق فى إلقائها بترجيع الموسيقى، والشعر- كما تعلم – مقيد بتوقيع بتوقيع الأوزان ، فينبغ أن يعطى حقه من النغم والألحان" ( ).
ولعل هدا يفسر لنا أيضاً – سر الموسيقى الرنانة المتعاظمة فى شعر الجارم ، حيث تشعر كلما تقدمت فى قراءة القصيدة – بارتفاع الموسيقى، والنغمات كأنها صادرة من فرق موسيقية كثيرة تضم أمهر العازفين فى تجانس وسحر وعذوبة .
ولذا كان الجارم لا يفتخر به بشيء كافتخاره بشعره ، فقصيدة الفخر عنده نادرة ، وأعظم ما كان يفتخر به شعره ، إذ لا يملك الشاعر أثمن منه ليهديه للمجتمع ، ومن ذلك قوله وهو يخاطب بلداه رشيد :
نفحات من وحى قدسك تهدى أنا من تربك النقى وشعرى
فتسامى فصرت فى الناس فردا كنت أشدو به مع الناس طفلا
أنيسا ، ولا ترى لك ندا ( ). من رزايا النبوع أنك لا تلقى
بل إنه يرى أن شعره أفضل من شعر الأعشى وشعر النابغة الذبيانى :
فتصغى مسامع الأكوان رب شعر له يردده الدهر
حلاها ذوائب الأغصان يتمنى الربيع لو تحدث منه
لعددناه من بنات الدنان من بنات الخيال لو كان يسقى
فأربى على جمال القيان رددته القيان يكسبنه حسنا
وعفى على فى ذبيان( ) قد أثار الغبار فى وجه ميمون
وإذا كنا ما نزال مع الجارم والشعر، فإن عناك ظاهرة تلفت انتباهنا، وتلح فى أن نتناولها ولو بإيجاز-، ألا وهى إلقاء الحارم للشعر. فلقد كان الجارم – فى إلقاء الشعر نسيج وحده ، ولم يكن أحد ممن يستمعون قصائده فى الاحتفالات ، أو تلقى من دار الإذاعة إلا ويسلب الجارم الألباب ويخلب النهى، ويجعل العقول متعلقة بالشعر، مشدودة ، ومشدوهة إليه . فهناك إجماع على أنه أفضل من يلقى الشعر فى عصره .
وإذا ما ذهبنا نستقصى ما قاله كبار النقاد عن جودة إلقاء الجارم للشعر، فإن الحديث يطول ، ولكننا نجتزئ الكلام اجتزاء . يقول الأستاذ أحمد الشايب :
" فكان – أى الجارم – من الأفراد النوادر الذين يحسنون إلقاء الشعر، وكان إلى تلك الخصائص اللفظية – يحسن تمثل معانيه ، وتمثيلها أثناء الإلقاء، لذلك كان شوقى يحرص على أن الجارم هو الذى يلقى شعره فى المحافل "( ) .
ويحدثنا شاهد عيان عن إلقاء الجارم فيقول : أقسم ، أننى لم أشاهده مرة ينشد قصيدة من شعره ، وأرى انفعاله فى رجفة البدن وخفقة الكلمة ، ونبرة الصوت إلا وقر فى نفس أن آلة موسيقية ترتجف بأنغامها، وأوتارها تحت يد عازف فنان ، لقد كان على الجارم – فى إنشاده – صورة من تلك الآلة الموسيقية التى أصف. فما هو فى حركاته ، واختلاجات بدنه ، وارتعاش الكلمات على شفتيه ، وتموجات النغم فى مزهره إلا آلة موسيقية زادها الحسن الإنسانى تأثيراً وروعة .. فلو أنت ملأت عينيك – فى لحظة من تلك اللحظات – لرأيت منظراً عجيباً تتفق منه على الشاعر أن تؤدى به نوبة من نوبات ذلك الانفعال( ).
وعندى أن ذلك راجع إلى حفظ الجارم للقرآن الكريم ، والى تربيته على شعراء عصور القوة كالمتنبى ، والبحترى ، والشريف الرضى ، وغيرهم ، والجارم نفسه يرى أن " الإلقاء فن يعتمد على الصفاء النفسى" ( ) . يقول د. إبراهيم أنيس : " أما إنشاد الشعر فى مصر فتد اتخذ طابعاً توارثناه من أساتذتنا، وأصبحنا نقلد المشهورين منهم فى الإنشاد كحافظ إبراهيم وعلى الجارم وغيرهم " ( ) .
ولن نطيل – كما وعدنا – ولكننا نلتقط شهادة شاعر القطرين خليل مطران (ت 1957م ) حيث يقول : " كنت مدعوا لإلقاء قصيدة فى حفل بأحد مسارح القاهرة ، وكان معى حافظ إبراهيم وقد أعد هو الآخر قصيدة لتلقى، كما دفع شوقى بقصيدة له هو- أيضا – لتلقى فى الحفل ، فألقيت قصيدة شوقى على الجمهور المحتشد فى المسرح فقوبلت بالاستحسان المصطنع ، ثم نهض حافظ وألقى قصيدته فصفق لها الناس مجاملين ، ثم نهض وألقيت قصيدتى فصفق لى الناس فاترين ، وإذا شاب ينهض ملقياً قصيدة ذات عبارات حماسية ، وجمل طنانة بصوت مجلجل ، ونبرات مؤثرة وإذا المسرح يهتز اهتزازا بتصفيق الناس، والهتاف يتصاعد كالرعد من الحناجر" ( ) ولم يكن ذلك الشاب سوى الصداح الغريد على الجارم .
وليس أدل على روعة إلقاء الجارم ، وتفوقه على جميع شعرا ء عصره فى الإلقاء وخصوصاً حافظ إبراهيم – من أن أمير الشعراء (شوقى) لم يكن يأمن أحداً ليلقى شعره إلا الجارم ، حتى لقد كان الحفل يضم شوقياً وحافظاً والجارم ، فيستمع الجمهور لقصيدة شوقى بإلقاء الجارم ، ثم حافظ ، ثم قصيدة الجارم بإلقاء الجارم "( ).
وأختتم هذه لجزئية بقول الأستاذ أحمد حسن الزيات – رحمه الله – : " إن دارسى اللغة العربية فى حاجة إلى سماع صوت الجارم حين يلقى قصائده بالإذاعة المصرية ، فهو أستاذ الإلقاء. تجويداً وضبطا لمخارج الحروف ، ومحافظة على بنية الكلمات ……." ( ).

عصره ومدرسته الأدبية :
لقد قرر الجارم لنفسه خطا – فى تأليف شعره – لا يحيد عنه ، ألا وهو الخط العربى الأصيل على غرار ما ورثه الشاعر عن الشعراء الفحول : كامرئ القيس ، والنابغة الذبيانى، وحسان بن ثابت ، وعمر بن أبى ربيعة ، والمتنبى، وأبى تمام ، والبحترى ، والشريف الرضى، وكذلك البارودى، وشوقى، وحافظ ، وعبد المطلب ، وحفنى ناصف ، ومحرم، ومحمود غنيم و الأسمر، وغيرهم من أساتذته وزملائه .
ولقد كان الجارم يعيش فى مصر النهضة الشعرية ، حيث كان الشعر مهوى الأفئدة ، لا تقام مناسبة إلا وتفتتح بالشعر حتى المؤتمرات الطبية والعلمية وغيرهما – وقد ربطت صداقة متينة بين الجارم وشوقى حتى أنه كان يمشى على قدميه من الأزهر إلى الجيزة للقاء شوقى، وكذلك كانت هناك صداقة تربطه بحافظ، وغيرهما من القمم الأدبية ، ولندلل على تلك العلاقة بين شوقى وحافظ والجارم الذى كان يأتى من بينهم وليس من ورائهم ، ثم استطاع ملء الفراغ الأدبى بعد رحيلهم باقتدار – " ففى عام 922ام أقيم احتفال لرثاء ( إسماعيل صبرى ) فى دار المعلمين العليا بالمنيرة ، فأرسل شوقى إليه – أى الجارم – وقال له : أريد إلقاء ، قصيدتى ، فاعتذر الجارم ، لأن له قصيدة ستلقى فى الحفل ، فما كان من شوقى إلا أن قال ، تلقى القصيدتين معاً .. ولقد استقبل الجمهور الجارم استقبالاً حافلاً واستعادوا أبياتها، وكان أغلب الحاضرين معممين فتضايق حافظ وقال له : " يا واد يا على ، أنت جايب غيط قطن يصقف لك ! " ( ) .
ولقد عرف الجارم لشوقى وحافظ – كما عرف لغيرهما – الفضل ، فسجل إعجابه بهما معا فى قصيدة (خلود) عام 1947م وفيها يقول :
فقد نالنى الذى قد كفانى يا خليلى لا تهيجالى الذكرى
لأراه كعهدة ورانى ناولانى بالله ديوان شوقى
ويقول عن حافظ :
بحرى عذب رشيق المبانى حافظ زين القريض بفن
صفحة الدر فى يدى دهقان ( ) لفظه فى يديه يختار منه
وبعد هذا ا لاستطراد المحتوم يجدر بنا أن نشير إلى عصر الجارم – بنظرة أوسع ، ولا نريد هنا أن نفصل القول فى بدايات النهضة الأدبية ، وأن الحملة الفرنسية على مصر فى أواخر القرن الثامن عشر فتحت على مصر أبوا ب أوروبا، وحضارة الغرب ، ولها فضل تنبيه الوطن ، وإزاة الغشاوة ليبصر بصيص النور، ويشم عبق الحضارة ، فازدادت الحركة، ووسائل الاتصال، وانتشرت الترجمة والبعاث ،
والمطابع ، والتعليم ، والمدارس ، وأفكار التحرر السياسى، ويقسم الأستاذ عمر الدسوقى شعراء هذه الفترة – فترة إسماعيل – أربعة أقسام :
* شعرا ء لم تكن لهم شخصية البتة ، بل ساروا فى الطريق المعبد الذى سلكه من قبلهم أدباء عصورا الانحطاط والضعف ، ذلك هو طريق الشعراء النظاميين والعروضيين مثل : السيد على أبو النصر ( ت 1880)، والشيخ على الليثى.(1380 ، 1896) .
* شعرا ء كانت لهم – مع تقليد للسلف ، و الأدب ا لموروث – شخصية ، بيد أن هذه الشخصية كانت ترى من بعيد، ومن خلف الحجب ا لكثيفة مثل : محمود صفوت الساعاتى ( 1825- 1880) .
* وشعراء قويت شخصيتهم بعض الشىء ، وحاولوا أن يجددوا ، وأن يلونوا أدبهم بما يظهر نفسيتهم ، ويطبعه بطابعهم مثل عبدالله فكرى ( 1834 ، 1889م ) .
* وشعراء رزقوا الشخصية الغلابة ، والأدب المتين ، وحاكوا النماذج الرفيعة فى أدب السلف ، ولم يقلدوا الفث من الآداب ، بل عمدوا إلى فحول الشعراء ينسجون على منوالهم ، ويبارونهم فى قصائدهم المشهورة الخالدة ، وخير مثال لذلك البارودى ( 1838 – 1904 )" ( ).
ولقد كان للبارودى دور عظيم فى بعث الشعر بعد موات ، ورده إليه روحه الزاهرة البعيدة عن التكلف والصنعة ، " ولقد أثر البارودى فيمن أتى بعده من الشعراء، وإن يده على الشعر العربى يد من أقاله من عثرته ، وأنهضه من كبوته ، وأعاد له ديباجته المشرقة ، ومعانيه السامية ، وكأنما فى يده عصا ساحر صيرت الميت حيا، والضعيف قويا، والمعدم ثريا، وكان شعره فى العصر الحديث نموذجا لكل من أتى بعده من شعراء العربية "( ).
ويكفى للتدليل على مكانة البارودى الشعرية أن نقرأ قول العقاد – رحمه الله – : فإذا أرسلت بصرك خمسمائة سنة وراء عصر البارودى، لم تكد تنظر إلى قمة واحدة تساميه ، أوتدانيه وكنت كمن يقف على رأس الطود منفردا فلا أمامه غير التلال ، والكثبان ، والوهاد، وهذه وثيقة قديرة فى تاريخ ا لأدب المصري ترفع الرجل بحق إلى مقام الطليعة أو مقام الإمام " ( ).
وإذا كان البارودى قد بعث الشعر من مرقده ، وصار علماً لمدرسة بعينها، فإن تلاميذه من بعده حملوا اللواء، وكانوا خير خلف لخير سلف ، جاء شوقى أمير الشعراء (1869ـ1932) ، وشاعر النيل حافظ إبراهيم ( 1870 ، 1932 ) ، وإسماعيل صبرى ( 1854- 1923 ) ، ومحمود غنيم (1902- 1972 ) ،محمد عبد المطلب (1871- 1931) ، وحفنى ناصف (1856- 1919 ) ، وأحمد محرم ( 1877- 1945 ) ، ومحمد الأسمر ( 1900 – 1956 ) ، وشاعرنا الكبير المرحوم على الجارم (1881-1949 ).
ولقد كان الجارم – رحمه الله – يسير فى طريقته الشعرية على منوال أساتذة العصر، وعلى رأسهم " أحمد شوقى " ( ومن قبله البارودى) هذا المنحى الذى قيل عنه " مدرسة المحافظين " أعنى الذين التزموا بالشعر العربى العمودى ، وعادوا إلى تراث الآباء والأجداد العرب يترسمون خطاهم ويعالجون – من خلال تجاربهم الشعورية ، والتعبيرية – مشاكل بيئاتهم ويصفون كل جميل أمامهم …" ( ).
وقد كان يروق للبعض – كالدكتور أحمد هيكل ، والدكتور محمد عبد العزيز الكفراوى ، أن يقسموا تلاميذ البارودى إلى قسمين هما :
* المقلدون كشوقى وحافظ والجارم وعبد المطلب.
* المجددون كخليل مطران وتلاميذه العقاد وشكرى( ).
من هذا التعقيب ينبغى أن نفرق بين التقليد الجامد الذى لا حياة فيه وبين النهج القديم الذى يتجاوب مع روح العصر، وهو ما يطلق على أصحابه ( بالمحافظين ) الذى يجمع بين القدم و المعاصرة.
ومن هنا ندرك مدرسة الجارم الأديبة واتجاهه ا لأدبى ، ألا وهوا لاتجاه ( المحافظ البيانى) على طريقة أستاذه وصديقه شوقى، وهذا ما أعلنه الجارم بنفسه فى قصيدة " خلود " التى نظمها فى ذكر حافظ وشوقى عام 1947م ، يقول الجارم فيها :
وغنت نواعق الغربان سكت العندليب فى وحشة الدوح
ثم يقول :
ب ولك يجلبوا سوى الأكفاء جلبوا للقريض ثوبا من الغر
بصناديد أخريات الزمان ثم قالوا مجددون فأهلا
وصوبوا ديباجية الذبيانى لا تثوروا عى تراث امرئ القيـ
ق ، وهاتوا ما شئتم من معانى واحفظوا اللفظ وأساليب والذو
كلسان القريض من طمطمانى ما لسان القريض من عربى
من دماء اللاتين واليونان إنما الشعر قطعة منك ليست
غدا العلم ما له من مكان كل فن له مكان وأهل
رب فأنى وكيف يلتقيان؟!( ) وجهة الشرق غيرها وجهة الغــ
والجارم لا يفتأ يعتز بهذا الاتجاه الأدبى ويعلنا فى كل ماسب ، وذلك إبان اشتعال المعركة الأدبية بين القديم ، والجديد، وهو – على الرغم من سفره إلى إنجلترا – لم يغير طريقة نظمه ، بل حافظ عليها واعتز بها إلى يوم وفاته ، فنجده فى مقدمته لديوانه يقول – بعد أن يبين أن جمال الشعر يكون فى الألفاظ ، النظم ، والجرس ، وتنوع الأساليب : " كل ذلك يكون مع لمحافظة على الأسلوب العربى الصميم "( ). ثم يقول بعدها : ثم يقول بعدها : " وفى الخيال ، وحسن تصويره ، والتزام الذوق العربى فيه"( ) .
ولقد كان الجارم من الشعراء الذين جمعوا بين الأصالة ، و المعاصرة ، فأخلص لترا ث أمته ولغتها، واطلع على الثقافة الغربية ، وألم بثقافات مصر ا لمختلفة ، فكان حلقة وصل بين القديم والجديد .
وإذا كان عصر الجارم ( )، يموج بالتيارات الشعرية التى كانت تنادى بالتجديد مثل التيار المتأثر بالثقافة الفرنسية كخليل مطران ، والتيار المتأثر بالثقافة الإنجليزية كالعقاد، و شكرى ، والمازنى كذلك كان العصر يضم القمم فى مجالات النثر المختلفة ، حيث الشيخ محمد عبده ، الشيخ على يوسف ، وطه حسين ، والعقاد، وجمال الدين الأفغانى، والرافعى، ولطفى السيد، والمنفلوطى، وجورجى زيدا ن ، ناهيك عن التيارات السياسية والحركات الوطنية التى لمعت فيها أسماء مصطفى كامل ، ومحمد فريد، وسعد زغلول ، ومصطفى النحاس وغيرهم ، وكذلك الأحوال المضطربة من حيث الخلافة الإسلامية ، وعلاقة الدول الغربية بتركيا، ورغبة الدول الكبرى الاستعمارية فى تفتيت وحدة الوطن العربى، ومسخ شخصيته ، والقضاء على لغته ، وتشويه ماضيه ، وثقافته ، وتعليمه ، وكذلك انتشار الجهل والمرض ، ثم معاصرة الشاعر للحربين العالميتين الأولى والثانية ، وإلغاء الخلافة الإسلامية ، وإعلان إنجلترا الحماية على مصر.
كل هذه الأحداث المضطربة ، والمتناقضة والمتنافرة كانت حقيقة بأن تنجب عظيماً يساير العظماء ويقف فى مصاف رواد النهضة يبنى معهم ، ويدل بدلوه من أجل نهضة أمته ، وبلده وأبناء وطنه . فكان على الجارم .
ويرى الأستاذ العقاد أن الجارم ينتمى إلى مدرسة ( دار العلوم ) فى الشعر، حيث يقول : " إنها مدرسة يجوز لنا أن نسميها بمدرسة ( دارالعلوم )، وأعجب لأنها لم تتميز بهذه الميزة الواضحة وهى أدل عليها من كل جامعة أخرى تفارقها ، ولا تقارب بين أوصالها … فالدرعمى عربى سلفى عصرى … ولا يسعك وأنت تقرأ قصيدة الشاعر من أركان هذه المدرسة الدرعمية أن تحجب فكرة (اللغة) من خاطرك .. على أن الطابع المستقل من ( الشخصية الجارمية ) يبدو على كل لمحة (درعمية) تصادفها بمعانيها، أو ألفاظها فى قصائد هذا الديوان "( ).
وقد وجد من الباحثين من يؤيد رأى العقاد، حيث يقول أحدهم : " والجارم أحد أركان المدرسة الدرعمية المتأثرة بشوقى "( ) .
وكذلك يرى الدكتورعبده بدوى فى مقال له بعنوان (الجارم .. ومدرسة دار العلوم فى الشعر ) : " و الذى يهمنا هنا هو أنه كان عضواً بارزاً فى تيار جديد لم ينل نصيبا من النقاد، هذا التيار هو التيار الدرعمى فى الشعر…"( ).
ومهما يكن من أمر فإننا – فى دراستنا الفنية للصورة عند الجارم – لن نقف كثيرا عند مدرسته ، بل ستهمنا الصورة – فقط – ودورها فى بناء الفنى لشعر الجارم.

وكتبه ابتغاء مرضاة الله تعالى، وخدمة للغة الشريفة
أبو جهاد إبراهيم أمين الزرزموني

م/ن

بالتوفيق

وايضا هذا ..

الشاعر الكبير علي الجارم رحلة الحياة والريادة (2)

بقلم: إبراهيم أمين الزرزموني

أسفاره :

سبق أن أشرنا إلى خوف المثقفين من أن تنتقل إمارة الشعر من مصر إلى إحدى الدول العربية بعد وفاة شوقى وحافظ ، ولكن العناية الإلهية شاءت أن تحفظ لمصر ريادتها وأوليتها المستحقة على يد الجارم وأمثاله.
فلقد كان للجارم قصب السبق فى كل الميادين التى خاضها، إذ كان الجارم يتصدرالميدان مع شوقى وحافظ ، فلما خلا الميدان من شاعر فحل متمكن من مدرسة الراحلين الكريمين ، لم يكن لها غير الصداح الغريد الجارم ليسد الفراغ باقتدار، وليكون – عن جدارة – ممثل مصر الرسمى فى المحافل العربية .
وقد أشرنا إلى سفره مبعوثاً إلى إنجلترا للدراسة من سنة 1908: 912ام . ونشير الآن إلى أسفاره العديدة الأخرى . فلقد سافر " إلى بغداد أربع مرات : فى رثاء الزهاوى فى فبراير 1937م ، وفى افتتاح المؤتمر الطبى العربى سنة 1938م ، وفى تأبين الملك غازى سنة 1939م ، كما أسهم فى الصلح بين قبيلتى " شمر" و "العبيد " فى نفس العام .
وسافر إلى لبنان أكثر من مرة : فى سنة 1934م ، وفى افتتاح ا لمؤتمر الطبى ببيروت سنة 1944م ، ومؤتمر الثقافة ببيروت سنة 947ام .
وسافر إلى السودان كثيراً للإشراف على امتحانات المدارس المصرية … ومن أشهر زياراته للسودان زيارته الأول سنة 1937م ، وزيارته فى سنة 1941م ( ).
ولنستعرض – فى عجالة – بعض ما قاله الجارم فى هذه الأمفار المتعددة ، والتى جعلت من اسمه مناراً يردده الوطن العربى بعد كل فتح – أعنى قصيدة – يعلى الجارم بناءه . ففى افتتاح المؤتمر الطبى العربى سنة 1938م ، يلقى الجارم قصيدة (بغداد)، وهى من أروع قصائد الشعر الحديث حيث تحول الجارم فيها ما بين تاريخ بغداد القديم والحديث ، وكلاهما – عنده – زاهر مشرق كما تطرق لعلاقة بغداد بالعروبة، واستنهض – كعادته – همم أبناء العروبة ليعيدوا المجد العربى التليد ومنها :
ومنارة المجد التليد! بغداد يا بلد الرشيد !
زهراء فى ثغر الخلود يا بسمة لما تزل
ومضرب المثل الشرود يا موطن الحب المقيم
خط فى لوح الوجود يا سطر مجد للعروبة
ـلام خفاق البنود( ) يا راية الإسلام ، والإســ
والقصيدة تقع فى تسعة وسبعين بيتاً من المعانى الصافية ، والموسيقى الخلابة (مجزوء الكامل ) والتنقل الرشيق بين أزهار المعانى المختلفة . هذا وقد ترجمت هذه القصيدة إلى اللغة الإنجليزية فى كتاب (الأدب العربى الحديث من 1800: 1970 ) بقلم الأستاذ جون أ. هايوود عام 1971م ( ). ويصف المؤلف الإنجليزي ، الجارم وقصيدته المذكورة قائلا : " إنه قدم شعرا من أجمل ما كتب فى العربية ، … وكانت قصيدته فى بغداد من أجمل ما كتب " ( ) .
وينقل الدكتور محمد رجب البيومى تعليقا لشاهد عيان على القصيدة السابقة ، ألا وهو الدكتور زكى مبارك (1890 – 1952م ) ، الذى كان يعمل مدرسا بالعراق وقت إلقاء الجارم لقصيدة (بغداد)، وعلى الرغم من وجود عداء من الدكتور زكى مبارك للجارم ، إلا أنه لا يملك – فى كتابه ليلى المريضة بالعراق ص 132- يملك ، إلا أن يقرر عظمة الجارم فى قصيدته وإلقائه فيقول : " وكنت مع الأسف ذهبت إلى الحفلة ، وأنا أضمر الشر للأستاذ على الجارم ، فقد كتب فى منهاج الاحتفال ( شاعر مصر) ، وأنا أبغض الألقاب الأدبية ، فلما وقف ليلقى قصيدته ، لم أصفق ، وأعديت من حولى بروح السخرية فلم يصفقوا، لكن الجارم قهرنى وقهر الحاضرين جميعاً على أن يدموا أكفهم من التصفيق ، وغاظنى أن تصفق ليلى (عشيقة زكى مبارك ) … فيا أيها العدو المحبوب الذى اسمه على الجارم ، تذكر أنك كنت – حقا وصدقاً – شاعر مصر فى المؤتمر الطبى العربى ، وستمر أجيال وأجيال ، ولا ينساك أهل العراق ، وهل تعرف مصر أنك رفعت رأسها فى العراق ، وأنك كنت خليفة شوقى فى المعانى، وخليفة حافظ فى الإلقاء…" ( ).
ويصف الأستاذ ثروت أباظة قصيدة ( بغداد ) للجارم بأنها " من أشهر القصائد العربية فى مصرنا قصيدة (بغداد) التى ألقاها هناك ، فإذا العراق كلها ترددها فى اليوم التالى … وهى – لا شك – من عيون الشعر العربى وليس بغريب عليها ما سمعناه من إعجاب العراق بها وترديده إياها "( ).
وفى زيارة الجارم للبنان فى صيف 1944 م ، كتب قصيدته الرائعة " لبنان " :
ورجعت أغسل بالدموع جراحى ألقيت للغيد الملاح سلاحى
ذبلت نضارته على الأقداح ولمحت ريحان الصبا فرأيته
وفيها يتغزل ، ويتحسر على أيام الشباب ، ويوجه تحيته للأطباء ، ولا ينسى – كعادته – الالتفات والتنبيه لمجد العروبة وضرورة التوحد :
حلت من الدنيا بأكرم ساح لبنان مذ حلت ذراك ركابنا
أخوان فى الأتراح والأفراح الأرز فيك ، ونخل مصر كلاهما
غمر الشطوط بدمعة النضاح( ) والنيل منك فلو بكيت لفادح
وفى زيارة الجارم للسودان كتب قصيدته (السودان ) وأنشدها فى جمع حافل بالخرطوم سنة 1941م ، ونلحظ فيها حسن الاستهلال ، وبراعته :
قفى نحيك أو عوجى فحيينا يا نسمة رنحت أعطاف وادينا
ومنها قوله :
مودة كصفاء الدر مكنونا إن جزت يوما إلى السودان فارع له
وعروة قد عقدناها بأيدينا عهد له قد رعيناه باعيننا
وسلسل النيل يرويهم ويروينا ( ) ظل العروبة والقرآن يجمعنا
والجارم – فى هذه القصيدة – يعارض نونية ( شوقى ) ، ونونية ( ابن زيدون ) ونونية ( ا لمرقش ا لأكبر)، كما صرح هو فى آ خر القصيدة بقوله :
وأنت بالجنبات الحمر تسقينا يا ساقى الحى جدد نشوة سلفت
تسرق السمع شوقى وابن زيدونا واصدح بنونية لما هتفت بها
إنا محيوك يا سلمى فحيينا ( ) وأحكم اللحن يا ساقى وغن لنا
وعن إبداع الجارم فى أسفاره ، وكونه رافعا راية الشعر فى مصر، يحدثنا الأستاذ كمال النجمى قائلا : " قد بلغ ( أى الجارم ) فى أيامه منزلة شاعر مصر الرسمى الذى تنتدبه الحكومة فى محافل البلاد العربية ، فيهز الأسماع بشعره ، ويذكرهم بشوقى، ويحيى عندهم أمل الوحدة العربية كما كانوا يتصورونها فى تلك ا لأيام ! … إن أحداً من شعراء ، مصر لم يتح له أن يمثل مصر رسمياً كما أتيح للجارم الذى انتزع قصب السبق فى جميع المحافل العربية بشهادة أصحابها … " ( ) .
ويقول الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومى : فلما مثل مصر بشاعريته الحافزة ، وديباجته العربية الناصعة ، جذب الأسماع لما يقول ، لقد كان الحفل الجهير يضم أفذاذ الشعر من كل وطن عربى، ولكل شاعر منزلته دون ريب ، ولكن الجارم يقف فى الطليعة بين شعراء كبار، فتكون قصيدته مجال التقدير والملاحظة ،ويعود إلى مصر، وكأنه عاد من فتح حربى بعد أن سجل بطوله الانتصار " ( ) .
ولقد كان الجارم صادقأ عندما افتخر بشعر الذى أجمعت الأمة العربية عليه ، فأصغى له وادى النيل ، وغنت باسمه بغداد، واهتزت الشام طرباً له . يقول ا لجارم مخاطبا بلدته ( رشيد ) :
ما كل ما تحوى الخيوط نظام هذ1 وليدك جاء ينشد شعره
بغداد ، واهتزت إليه الشام ( ) أمثغى له الوادى، وعثث امثمه

الجارم والشعر :

حاول الجارم ه فى مقدمة ديوانه – أن يعرف الشعر، إلا أنه – كغيره من الشعراء والنقاد ه لم يصلوا إلى شعر الشعر، وإنما اكتفوا بوصفه ، وبيان أثره فى الأرواح . يقول الجارم : " إنى لا أريد أن أسهب فى الكلام على معنى الشعر وخصائصه ، ومبعث الروحانية فيه ، ذالك لان هذا المبحث طرقه الباحثون كثيرا، فاخفقوا …" ( ) .
ثم يقرر الجارم أن سر الشجن فى الشعر مجهول ، والذى يبحث عنه ، يضيع وقته فى غير فائدة ، بل عليه أن يستمتع بالشعر دونما بحث ، وكد ، حيث يقول : " إنك تهتز للبحترى وتطرب له ، ولكنك لا تستطيع أن تفض خاتم سحره ، ولا أن تنقل إلى نفس غيرك صدى جرسه فى نفسك" ( ).
وهو يرى « أن سحر السحر يكمن فى "اختيار النظم ، وفى إبداع التصوير، وفى وضع الكلمة فى موضعها، وفى الجرس والئغم ، ولكن أين السبيل إلى إبانة ذلك؟"( ).
ثم يفصل الرأى السابق بقوله : " ولو أردنا أن نقول فى لطف جمال الشعر، وروحانيته . وعجز الألفاظ عن الإحاطة بسره ، واماطة اللثام عن مكنون سحره ، لطال حبل الكلام ، وجاد القلم من الجادة ، ولكنا نستطيع أن نتول فى جمل قصيرة : إن جمال الشعر فى نظمه ، وجرسه ، ورنينه وفى انتقاء ألفاظه ، وتجانسها، وفى ترتيب هذه ا لألفاظ ترتيبا يبرز المعنى فى أروع صورة ، وأبدعها وفى اختيار الأسلوب الذى يليق بالمعنى ويليق به ، فمرة يكون إخبارا ، ومرة يكون استفهاما، ومرة يكون استنكاراً ، ومرة يكون نفياً، ومرة يكون تعجبا، كل ذلك يكون مع المحافظة على الأسلوب العربى الصميم ، ثم فى المعانى وابتكارها، أو توليدها من القديم فى صورة جديدة رائعة ، ثم فى الخيال وحسن تصوير ، والتزام الذوق العربى فيه ، ثم فى إحكام القافية والتمهيد لها، ثم فى اختيار البحر الذى يلائم موضوع القصيدة ، ثم فى التنقل فى القصيدة بين فنون شتى من القول مع المحافظة على الوحدة الشعرية ، ثم فى روح الشاعر وخفة ظله ، وانسياقه مع الطبع ، وتعمده لمس مواطن الشعور"( ) .
ولسنا نريد الإطالة فى عرض آرائه النثرية فى الشعر فهذا مفصل فى مقدمة ديوانه ، لكننا نقف عند مفهوم الشعر فى قصائده ، وأول ما يطالعنا قوله :
لا ترى فيه سوى إحدى اثنتين إنما الشعر على كثرته
ليس فى الشعر كلام بين بين ( ) نفحة قدسية أو هذر
إذن فالشعر – عند الجارم – لا يحتمل الرسطية ، فإما أن يكون شعرا تهتز له الأعماق ، وتطرب له النفس ، وإما هذرا لا قيمة له .
ونراه يحاول أن يعرض وجهة نظره عن الشعر، وكيف أن الشعر عاطفة وفكرة ، وهو يلهب الأرواح – عندما يلامسها – ، والشعر مصباح لمن يريد نور الحياة وهو أنشودة مرسلة من قلب إلى قلب وهو همس الغصون ، ودموع الطل ، وجيش لا يهزم ، ولا تصد جولاته :
وفكرة تتجلى بين أفكار الشعر عاطفة تقتاد عاطفة
كما تقابل تيار بتيار الشعر إن لامس الأروح ألهبها
نور الحياة وزند الأمة الوارى الشعر مصباح أقوام إذا التمسوا
إلى القلوب فتحيا بعد إقفار الشعر أنشودة الفنان يرسلها
ودمعة الطل فى أجفان أزهار الشعر همس الغصون الدوح مائسة
جلاد مرهفة أو فتك بتار ( ) الشعر للملك جيش لا يصاوله
وهو يفصل فى بقية الأبيات أن الشعر يغزو، وينتصر فى معركة لا جراح فيها، ولا قتلى لأن الأعداء يفرون عند سماعه ، ولا يقفون للقتال ، ثم يبين أن حسان بن ثابت – t – كان جيشاً أشد من جيوش الزحف ، وأن ملك بنى أمية لم يزدهر إلا بالشعر، وكذلك ملك العباسيين فالخلود فى الشعر لا فى غيره حيث يحتوى على الحكمة التى هى حديث سائر على مرور الأيام " ( ).
وإذا ما حاولنا استقراء آراء الجارم عن الشعر فى قصائده ، وجدناه من أنصار الفن الذى يخدم المجتمع بكافة فئاته وطوائفه ، ولم يكن الجارم من أنصار الفن للفن ، لان الشعر- عنده – ذو رسالة سامية عليه أن يؤديها" ( ) .
فالجارم من الشعراء الملتزمين بغاية الفن التى تقوى روح المجتمع البناءة ، وتعدل السلوك الشائن ، وتدعو لمكارم الأخلاق . يقول الجارم :
ذخيرة وأعز بند الشعر للأملاك خير
ما شئت من خيل وجند ولرب قافية بها
ولا بعد ببعد تسرى فلا صعب بصعب
بين الواكب من مصد تثب الجبال ومالها
وعدة للمستعد الشعر زند للقوى
دان المهند بالفرند ( ) كم زان من ملك كما أن
والجارم يحب أن يسمى شعره (وحياً ) ، ويرفض أن يسمى ( قصيداً )
ورآه من لا يحس قصيدا ( ) قد رآه مثقف الحس وحيا
وإذا كان الجارم يعتبر شعره وحياً ، فإن هذا يقودنا إلى سؤال : كيف كان يؤلف الجارم شعره ؟ لقد حدثنا الجارم نفسه فى شعره من عملية الخلق ، وكيف كان الشعر يراوغه حيناً، ثم يواتيه فى النهاية سلساً طيعاً مغرداً ، حيث كانت عرائس خياله ذلولة ، لمليفة ، لينة ، سهلة القيادة.
يقول الجارم :
أحظى بها بالغائب المفقود وأعيش فى دنيا الخيال لأننى
والنجم يلحظنا بعين حسود كم ليلة سامرت شعرى لاهيا
فيلين بعد تنكر وجحود حينا يراوغني فانظر ضارعا
ويعافه سمع الحسان الخود( ). طهرته من كل ما تأبى النهى
فالأمر لا يعدو بالنسبة لشاعرنا مسامرة ، يحاول فيها القريض أن يتأبى، لكنه -بنظرة ضارعة حانية من الشاعر. يلين فيعطى القياد .
يقول الدكتور محمد عبد المنعم خاطر: " أما عملية الخلق فلقد تحدث عنها فى أكثر من موضع ، وحديثه لم يخرج من عملية الخلق تتم فى هدوء الليل حيث كان يجلس فى إحدى حجرا ت داره وفى يده قلم يخط به كلمات يثبتها حينا، ويشطب فوقها حيناً، ثم يقف مفكراً حينا وعيناه ذاهلتان فى السقف ، وفى أرجاء الحجرة كأنه يتلقف الهدوء على استهواء ، عرائس خياله المراوغة ، بالضراعة حيناً، وبالتغريد أحيانا، فتلين له ، وتنثنى عائدة إليه ، فيمسك بالقادمتين بعد أن تكون قد وقعت فى شراكه ( ).
والمتأمل لشعر الجارم يجزم بأنه من مدرسة أحمد شوقى أمير الشعراء، أقصد من مدرسته فى التأليف القائم على البديهة والارتجال ، لا الصنعة والتكلف ، إذ تحس أن شعر الجارم سلس متتابع فى يسر كأنه قطرات الماء تسير فى جدولها المتدفق ، ولا تحس بلفظة نافرة ، أو قلقة ، أونابية مما يؤكد لديك الشعور أن شعر قائم على البديهة بصفة عامة.
والذى يؤكد رأينا السابق ما يرويه الأستاذ طاهر الطناحى، من أنه سأل الأستاذ الجارم – رحمهما الله – عن سر إعجاب الناس بشعره . وإلقائه ، فقال الجارم : " اعتدت حين أنظم الشعر ألا أستعين عليه بالكتابة ، بل بالحفظ والترجيع ، فإذا خطرت لى الفكرة . وألهمت بيتاً ، أخذت أتغنى به حتى ارتحت إلى معناه ومبناه ، نظمت فير وتغنيت به إلى أن تتم القصيدة وقد حفظتها جيدا فأعيد إنشادها بينى وبين نفسى لأقف على مواضع قوتها وضعفها، فأهذب ما يحتاج إلى تهذيب وأعود إلى إنشادها مراراً . فإذا وقفت فى الحفل ألقيها على الحاضرين وقد تمكنت منها، وجدت من إقبالهم على الاستماع إلى شعرى ما يثير فى نفسى قوة كامنة لا أستطيع التعبير عنها، فأنطلق فى إلقائها بترجيع الموسيقى، والشعر- كما تعلم – مقيد بتوقيع بتوقيع الأوزان ، فينبغ أن يعطى حقه من النغم والألحان" ( ).
ولعل هدا يفسر لنا أيضاً – سر الموسيقى الرنانة المتعاظمة فى شعر الجارم ، حيث تشعر كلما تقدمت فى قراءة القصيدة – بارتفاع الموسيقى، والنغمات كأنها صادرة من فرق موسيقية كثيرة تضم أمهر العازفين فى تجانس وسحر وعذوبة .
ولذا كان الجارم لا يفتخر به بشيء كافتخاره بشعره ، فقصيدة الفخر عنده نادرة ، وأعظم ما كان يفتخر به شعره ، إذ لا يملك الشاعر أثمن منه ليهديه للمجتمع ، ومن ذلك قوله وهو يخاطب بلداه رشيد :
نفحات من وحى قدسك تهدى أنا من تربك النقى وشعرى
فتسامى فصرت فى الناس فردا كنت أشدو به مع الناس طفلا
أنيسا ، ولا ترى لك ندا ( ). من رزايا النبوع أنك لا تلقى
بل إنه يرى أن شعره أفضل من شعر الأعشى وشعر النابغة الذبيانى :
فتصغى مسامع الأكوان رب شعر له يردده الدهر
حلاها ذوائب الأغصان يتمنى الربيع لو تحدث منه
لعددناه من بنات الدنان من بنات الخيال لو كان يسقى
فأربى على جمال القيان رددته القيان يكسبنه حسنا
وعفى على فى ذبيان( ) قد أثار الغبار فى وجه ميمون
وإذا كنا ما نزال مع الجارم والشعر، فإن عناك ظاهرة تلفت انتباهنا، وتلح فى أن نتناولها ولو بإيجاز-، ألا وهى إلقاء الحارم للشعر. فلقد كان الجارم – فى إلقاء الشعر نسيج وحده ، ولم يكن أحد ممن يستمعون قصائده فى الاحتفالات ، أو تلقى من دار الإذاعة إلا ويسلب الجارم الألباب ويخلب النهى، ويجعل العقول متعلقة بالشعر، مشدودة ، ومشدوهة إليه . فهناك إجماع على أنه أفضل من يلقى الشعر فى عصره .
وإذا ما ذهبنا نستقصى ما قاله كبار النقاد عن جودة إلقاء الجارم للشعر، فإن الحديث يطول ، ولكننا نجتزئ الكلام اجتزاء . يقول الأستاذ أحمد الشايب :
" فكان – أى الجارم – من الأفراد النوادر الذين يحسنون إلقاء الشعر، وكان إلى تلك الخصائص اللفظية – يحسن تمثل معانيه ، وتمثيلها أثناء الإلقاء، لذلك كان شوقى يحرص على أن الجارم هو الذى يلقى شعره فى المحافل "( ) .
ويحدثنا شاهد عيان عن إلقاء الجارم فيقول : أقسم ، أننى لم أشاهده مرة ينشد قصيدة من شعره ، وأرى انفعاله فى رجفة البدن وخفقة الكلمة ، ونبرة الصوت إلا وقر فى نفس أن آلة موسيقية ترتجف بأنغامها، وأوتارها تحت يد عازف فنان ، لقد كان على الجارم – فى إنشاده – صورة من تلك الآلة الموسيقية التى أصف. فما هو فى حركاته ، واختلاجات بدنه ، وارتعاش الكلمات على شفتيه ، وتموجات النغم فى مزهره إلا آلة موسيقية زادها الحسن الإنسانى تأثيراً وروعة .. فلو أنت ملأت عينيك – فى لحظة من تلك اللحظات – لرأيت منظراً عجيباً تتفق منه على الشاعر أن تؤدى به نوبة من نوبات ذلك الانفعال( ).
وعندى أن ذلك راجع إلى حفظ الجارم للقرآن الكريم ، والى تربيته على شعراء عصور القوة كالمتنبى ، والبحترى ، والشريف الرضى ، وغيرهم ، والجارم نفسه يرى أن " الإلقاء فن يعتمد على الصفاء النفسى" ( ) . يقول د. إبراهيم أنيس : " أما إنشاد الشعر فى مصر فتد اتخذ طابعاً توارثناه من أساتذتنا، وأصبحنا نقلد المشهورين منهم فى الإنشاد كحافظ إبراهيم وعلى الجارم وغيرهم " ( ) .
ولن نطيل – كما وعدنا – ولكننا نلتقط شهادة شاعر القطرين خليل مطران (ت 1957م ) حيث يقول : " كنت مدعوا لإلقاء قصيدة فى حفل بأحد مسارح القاهرة ، وكان معى حافظ إبراهيم وقد أعد هو الآخر قصيدة لتلقى، كما دفع شوقى بقصيدة له هو- أيضا – لتلقى فى الحفل ، فألقيت قصيدة شوقى على الجمهور المحتشد فى المسرح فقوبلت بالاستحسان المصطنع ، ثم نهض حافظ وألقى قصيدته فصفق لها الناس مجاملين ، ثم نهض وألقيت قصيدتى فصفق لى الناس فاترين ، وإذا شاب ينهض ملقياً قصيدة ذات عبارات حماسية ، وجمل طنانة بصوت مجلجل ، ونبرات مؤثرة وإذا المسرح يهتز اهتزازا بتصفيق الناس، والهتاف يتصاعد كالرعد من الحناجر" ( ) ولم يكن ذلك الشاب سوى الصداح الغريد على الجارم .
وليس أدل على روعة إلقاء الجارم ، وتفوقه على جميع شعرا ء عصره فى الإلقاء وخصوصاً حافظ إبراهيم – من أن أمير الشعراء (شوقى) لم يكن يأمن أحداً ليلقى شعره إلا الجارم ، حتى لقد كان الحفل يضم شوقياً وحافظاً والجارم ، فيستمع الجمهور لقصيدة شوقى بإلقاء الجارم ، ثم حافظ ، ثم قصيدة الجارم بإلقاء الجارم "( ).
وأختتم هذه لجزئية بقول الأستاذ أحمد حسن الزيات – رحمه الله – : " إن دارسى اللغة العربية فى حاجة إلى سماع صوت الجارم حين يلقى قصائده بالإذاعة المصرية ، فهو أستاذ الإلقاء. تجويداً وضبطا لمخارج الحروف ، ومحافظة على بنية الكلمات ……." ( ).

عصره ومدرسته الأدبية :
لقد قرر الجارم لنفسه خطا – فى تأليف شعره – لا يحيد عنه ، ألا وهو الخط العربى الأصيل على غرار ما ورثه الشاعر عن الشعراء الفحول : كامرئ القيس ، والنابغة الذبيانى، وحسان بن ثابت ، وعمر بن أبى ربيعة ، والمتنبى، وأبى تمام ، والبحترى ، والشريف الرضى، وكذلك البارودى، وشوقى، وحافظ ، وعبد المطلب ، وحفنى ناصف ، ومحرم، ومحمود غنيم و الأسمر، وغيرهم من أساتذته وزملائه .
ولقد كان الجارم يعيش فى مصر النهضة الشعرية ، حيث كان الشعر مهوى الأفئدة ، لا تقام مناسبة إلا وتفتتح بالشعر حتى المؤتمرات الطبية والعلمية وغيرهما – وقد ربطت صداقة متينة بين الجارم وشوقى حتى أنه كان يمشى على قدميه من الأزهر إلى الجيزة للقاء شوقى، وكذلك كانت هناك صداقة تربطه بحافظ، وغيرهما من القمم الأدبية ، ولندلل على تلك العلاقة بين شوقى وحافظ والجارم الذى كان يأتى من بينهم وليس من ورائهم ، ثم استطاع ملء الفراغ الأدبى بعد رحيلهم باقتدار – " ففى عام 922ام أقيم احتفال لرثاء ( إسماعيل صبرى ) فى دار المعلمين العليا بالمنيرة ، فأرسل شوقى إليه – أى الجارم – وقال له : أريد إلقاء ، قصيدتى ، فاعتذر الجارم ، لأن له قصيدة ستلقى فى الحفل ، فما كان من شوقى إلا أن قال ، تلقى القصيدتين معاً .. ولقد استقبل الجمهور الجارم استقبالاً حافلاً واستعادوا أبياتها، وكان أغلب الحاضرين معممين فتضايق حافظ وقال له : " يا واد يا على ، أنت جايب غيط قطن يصقف لك ! " ( ) .
ولقد عرف الجارم لشوقى وحافظ – كما عرف لغيرهما – الفضل ، فسجل إعجابه بهما معا فى قصيدة (خلود) عام 1947م وفيها يقول :
فقد نالنى الذى قد كفانى يا خليلى لا تهيجالى الذكرى
لأراه كعهدة ورانى ناولانى بالله ديوان شوقى
ويقول عن حافظ :
بحرى عذب رشيق المبانى حافظ زين القريض بفن
صفحة الدر فى يدى دهقان ( ) لفظه فى يديه يختار منه
وبعد هذا ا لاستطراد المحتوم يجدر بنا أن نشير إلى عصر الجارم – بنظرة أوسع ، ولا نريد هنا أن نفصل القول فى بدايات النهضة الأدبية ، وأن الحملة الفرنسية على مصر فى أواخر القرن الثامن عشر فتحت على مصر أبوا ب أوروبا، وحضارة الغرب ، ولها فضل تنبيه الوطن ، وإزاة الغشاوة ليبصر بصيص النور، ويشم عبق الحضارة ، فازدادت الحركة، ووسائل الاتصال، وانتشرت الترجمة والبعاث ،
والمطابع ، والتعليم ، والمدارس ، وأفكار التحرر السياسى، ويقسم الأستاذ عمر الدسوقى شعراء هذه الفترة – فترة إسماعيل – أربعة أقسام :
* شعرا ء لم تكن لهم شخصية البتة ، بل ساروا فى الطريق المعبد الذى سلكه من قبلهم أدباء عصورا الانحطاط والضعف ، ذلك هو طريق الشعراء النظاميين والعروضيين مثل : السيد على أبو النصر ( ت 1880)، والشيخ على الليثى.(1380 ، 1896) .
* شعرا ء كانت لهم – مع تقليد للسلف ، و الأدب ا لموروث – شخصية ، بيد أن هذه الشخصية كانت ترى من بعيد، ومن خلف الحجب ا لكثيفة مثل : محمود صفوت الساعاتى ( 1825- 1880) .
* وشعراء قويت شخصيتهم بعض الشىء ، وحاولوا أن يجددوا ، وأن يلونوا أدبهم بما يظهر نفسيتهم ، ويطبعه بطابعهم مثل عبدالله فكرى ( 1834 ، 1889م ) .
* وشعراء رزقوا الشخصية الغلابة ، والأدب المتين ، وحاكوا النماذج الرفيعة فى أدب السلف ، ولم يقلدوا الفث من الآداب ، بل عمدوا إلى فحول الشعراء ينسجون على منوالهم ، ويبارونهم فى قصائدهم المشهورة الخالدة ، وخير مثال لذلك البارودى ( 1838 – 1904 )" ( ).
ولقد كان للبارودى دور عظيم فى بعث الشعر بعد موات ، ورده إليه روحه الزاهرة البعيدة عن التكلف والصنعة ، " ولقد أثر البارودى فيمن أتى بعده من الشعراء، وإن يده على الشعر العربى يد من أقاله من عثرته ، وأنهضه من كبوته ، وأعاد له ديباجته المشرقة ، ومعانيه السامية ، وكأنما فى يده عصا ساحر صيرت الميت حيا، والضعيف قويا، والمعدم ثريا، وكان شعره فى العصر الحديث نموذجا لكل من أتى بعده من شعراء العربية "( ).
ويكفى للتدليل على مكانة البارودى الشعرية أن نقرأ قول العقاد – رحمه الله – : فإذا أرسلت بصرك خمسمائة سنة وراء عصر البارودى، لم تكد تنظر إلى قمة واحدة تساميه ، أوتدانيه وكنت كمن يقف على رأس الطود منفردا فلا أمامه غير التلال ، والكثبان ، والوهاد، وهذه وثيقة قديرة فى تاريخ ا لأدب المصري ترفع الرجل بحق إلى مقام الطليعة أو مقام الإمام " ( ).
وإذا كان البارودى قد بعث الشعر من مرقده ، وصار علماً لمدرسة بعينها، فإن تلاميذه من بعده حملوا اللواء، وكانوا خير خلف لخير سلف ، جاء شوقى أمير الشعراء (1869ـ1932) ، وشاعر النيل حافظ إبراهيم ( 1870 ، 1932 ) ، وإسماعيل صبرى ( 1854- 1923 ) ، ومحمود غنيم (1902- 1972 ) ،محمد عبد المطلب (1871- 1931) ، وحفنى ناصف (1856- 1919 ) ، وأحمد محرم ( 1877- 1945 ) ، ومحمد الأسمر ( 1900 – 1956 ) ، وشاعرنا الكبير المرحوم على الجارم (1881-1949 ).
ولقد كان الجارم – رحمه الله – يسير فى طريقته الشعرية على منوال أساتذة العصر، وعلى رأسهم " أحمد شوقى " ( ومن قبله البارودى) هذا المنحى الذى قيل عنه " مدرسة المحافظين " أعنى الذين التزموا بالشعر العربى العمودى ، وعادوا إلى تراث الآباء والأجداد العرب يترسمون خطاهم ويعالجون – من خلال تجاربهم الشعورية ، والتعبيرية – مشاكل بيئاتهم ويصفون كل جميل أمامهم …" ( ).
وقد كان يروق للبعض – كالدكتور أحمد هيكل ، والدكتور محمد عبد العزيز الكفراوى ، أن يقسموا تلاميذ البارودى إلى قسمين هما :
* المقلدون كشوقى وحافظ والجارم وعبد المطلب.
* المجددون كخليل مطران وتلاميذه العقاد وشكرى( ).
من هذا التعقيب ينبغى أن نفرق بين التقليد الجامد الذى لا حياة فيه وبين النهج القديم الذى يتجاوب مع روح العصر، وهو ما يطلق على أصحابه ( بالمحافظين ) الذى يجمع بين القدم و المعاصرة.
ومن هنا ندرك مدرسة الجارم الأديبة واتجاهه ا لأدبى ، ألا وهوا لاتجاه ( المحافظ البيانى) على طريقة أستاذه وصديقه شوقى، وهذا ما أعلنه الجارم بنفسه فى قصيدة " خلود " التى نظمها فى ذكر حافظ وشوقى عام 1947م ، يقول الجارم فيها :
وغنت نواعق الغربان سكت العندليب فى وحشة الدوح
ثم يقول :
ب ولك يجلبوا سوى الأكفاء جلبوا للقريض ثوبا من الغر
بصناديد أخريات الزمان ثم قالوا مجددون فأهلا
وصوبوا ديباجية الذبيانى لا تثوروا عى تراث امرئ القيـ
ق ، وهاتوا ما شئتم من معانى واحفظوا اللفظ وأساليب والذو
كلسان القريض من طمطمانى ما لسان القريض من عربى
من دماء اللاتين واليونان إنما الشعر قطعة منك ليست
غدا العلم ما له من مكان كل فن له مكان وأهل
رب فأنى وكيف يلتقيان؟!( ) وجهة الشرق غيرها وجهة الغــ
والجارم لا يفتأ يعتز بهذا الاتجاه الأدبى ويعلنا فى كل ماسب ، وذلك إبان اشتعال المعركة الأدبية بين القديم ، والجديد، وهو – على الرغم من سفره إلى إنجلترا – لم يغير طريقة نظمه ، بل حافظ عليها واعتز بها إلى يوم وفاته ، فنجده فى مقدمته لديوانه يقول – بعد أن يبين أن جمال الشعر يكون فى الألفاظ ، النظم ، والجرس ، وتنوع الأساليب : " كل ذلك يكون مع لمحافظة على الأسلوب العربى الصميم "( ). ثم يقول بعدها : ثم يقول بعدها : " وفى الخيال ، وحسن تصويره ، والتزام الذوق العربى فيه"( ) .
ولقد كان الجارم من الشعراء الذين جمعوا بين الأصالة ، و المعاصرة ، فأخلص لترا ث أمته ولغتها، واطلع على الثقافة الغربية ، وألم بثقافات مصر ا لمختلفة ، فكان حلقة وصل بين القديم والجديد .
وإذا كان عصر الجارم ( )، يموج بالتيارات الشعرية التى كانت تنادى بالتجديد مثل التيار المتأثر بالثقافة الفرنسية كخليل مطران ، والتيار المتأثر بالثقافة الإنجليزية كالعقاد، و شكرى ، والمازنى كذلك كان العصر يضم القمم فى مجالات النثر المختلفة ، حيث الشيخ محمد عبده ، الشيخ على يوسف ، وطه حسين ، والعقاد، وجمال الدين الأفغانى، والرافعى، ولطفى السيد، والمنفلوطى، وجورجى زيدا ن ، ناهيك عن التيارات السياسية والحركات الوطنية التى لمعت فيها أسماء مصطفى كامل ، ومحمد فريد، وسعد زغلول ، ومصطفى النحاس وغيرهم ، وكذلك الأحوال المضطربة من حيث الخلافة الإسلامية ، وعلاقة الدول الغربية بتركيا، ورغبة الدول الكبرى الاستعمارية فى تفتيت وحدة الوطن العربى، ومسخ شخصيته ، والقضاء على لغته ، وتشويه ماضيه ، وثقافته ، وتعليمه ، وكذلك انتشار الجهل والمرض ، ثم معاصرة الشاعر للحربين العالميتين الأولى والثانية ، وإلغاء الخلافة الإسلامية ، وإعلان إنجلترا الحماية على مصر.
كل هذه الأحداث المضطربة ، والمتناقضة والمتنافرة كانت حقيقة بأن تنجب عظيماً يساير العظماء ويقف فى مصاف رواد النهضة يبنى معهم ، ويدل بدلوه من أجل نهضة أمته ، وبلده وأبناء وطنه . فكان على الجارم .
ويرى الأستاذ العقاد أن الجارم ينتمى إلى مدرسة ( دار العلوم ) فى الشعر، حيث يقول : " إنها مدرسة يجوز لنا أن نسميها بمدرسة ( دارالعلوم )، وأعجب لأنها لم تتميز بهذه الميزة الواضحة وهى أدل عليها من كل جامعة أخرى تفارقها ، ولا تقارب بين أوصالها … فالدرعمى عربى سلفى عصرى … ولا يسعك وأنت تقرأ قصيدة الشاعر من أركان هذه المدرسة الدرعمية أن تحجب فكرة (اللغة) من خاطرك .. على أن الطابع المستقل من ( الشخصية الجارمية ) يبدو على كل لمحة (درعمية) تصادفها بمعانيها، أو ألفاظها فى قصائد هذا الديوان "( ).
وقد وجد من الباحثين من يؤيد رأى العقاد، حيث يقول أحدهم : " والجارم أحد أركان المدرسة الدرعمية المتأثرة بشوقى "( ) .
وكذلك يرى الدكتورعبده بدوى فى مقال له بعنوان (الجارم .. ومدرسة دار العلوم فى الشعر ) : " و الذى يهمنا هنا هو أنه كان عضواً بارزاً فى تيار جديد لم ينل نصيبا من النقاد، هذا التيار هو التيار الدرعمى فى الشعر…"( ).
ومهما يكن من أمر فإننا – فى دراستنا الفنية للصورة عند الجارم – لن نقف كثيرا عند مدرسته ، بل ستهمنا الصورة – فقط – ودورها فى بناء الفنى لشعر الجارم.

وكتبه ابتغاء مرضاة الله تعالى، وخدمة للغة الشريفة
أبو جهاد إبراهيم أمين الزرزموني

م/ن

بالتوفيق

مشكووووره خيتوو نتريأإأ يديدج..^_+

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.