كانت معركة صفين صراعَ عصبية (و ليس صراع مذهب) حيث برز بوضوح تفوق عصبية أهل الشام و بنو أمية على أهل العراقَين عراق العرب و عراق العجم.
فجيش العراق كان تحت قيادة أمير المؤمنين علي t، و هو القائد المغوار العارف بالحرب، و قد أمّره رسول الله r مرة على إحدى جيوش المسلمين في خيبر. و كان من قادته الأشتر النخعي من أشجع صناديد العرب و فرسانهم، و كان من قتلة عثمان. و كان جيشه أكبر من جيش الشام و يقدر بحوالي مئة ألف[1]، لكن فيهم العجم و الموالي و الأعراب و العصاة، و فيهم من بقي من قتلة عثمان. و كان ذلك الجيش مفرقاً لا تجمعه عصبية، بل يغلب عليه عصائب مفرقة متناحرة. و رغم أن علياً كان يحكم كل بلاد المسلمين عدا الشام، أي فارس و خرسان و الجزيرة و اليمن و العراق و مصر، إلا أن غالب جيشه كان من عصائب أهل العراق. و قد عاب عليه معاوية أن المهاجرين و الأنصار لم يكن منهم في جيشه إلا النذر اليسير. و لكن كان في جيشه من الصحابة أكثر مما كان في جيش معاوية.
و جيش الشام كان تحت قيادة معاوية بن أبي سفيان t. و كان معه عمرو بن العاص t العارف بالحرب، و قد أمّره رسول الله r مرة على إحدى جيوش المسلمين في ذات السلاسل و فيهم أبو بكر و عمر t. و كان جيشاً منظماً شديد الانضباط، حتى قال معاوية: «و الله ما أصبت الشام إلا بالطاعة»[2]. و كان جيشاً ذا عصبية قوية رغم قلة عدده[3]، فاستطاع أن يصمد أمام جيش جرار يقارب ضعفه.
بدأت مناوشات كثيرة بين الجيشين، ثم أرسل علي t إلى معاوية و قال له: «هل لك إلى أن نتهادن شهراً، و أن لا يحدث فيه قتال، لعل أن نتفاوض و نتفاهم؟». و كان الأمل في الصلح يحدو الجميع، حيث إن علياً t غير راغب في القتال أصلاً، فهو يريد أن يؤخر القتال قدر المستطاع و كذلك معاوية، فلم يكد يعرض عليه علي هذا الأمر حتى بادر معاوية بالموافقة على إيقاف القتال في شهر المحرم. فتوقف القتال تماماً و الجيشان في أماكنهما يتزاورون و يتسامرون في الليل. و لا غرابة في ذلك لأنه لم تكن بين الجيشين أحقاد، بل كان كل طرف ينافح عما يعتقده حقاً، و لأنهم كانو أهلاً من نفس القبائل و العشائر[4].
و انتهت الهدنة، فأمر علي جيشه بهجوم شديد عنيف[5]. و قد التزم كلٌ من الطرفين بأحكام قتال البغاة. قال أبو أمامة: «شهدت صفين، فكانو لا يجهزون على جريح، و لا يطلبون مُوَلّياً و لا يسلبون قتيلاً»[6]. و لم يكن الطرفان يكفّر بعضهما، لكن بعض الجند المتحمسين في جيش علي t كانو يلعنون و يكفرون الشاميين، فلا يلقى من قادته إلا النَّهْر و التّوبيخ[7]. و قال رجل يوم صفين: «اللهم العن أهل الشام». فقال علي: «لا تسب أهل الشام جمّاً غفيراً، فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال»[8].
و احتدمت المعركة بضراوة شديدة حتى قـُتِل من الطرفين مقتلة عظيمة دون أن يتراجع أحد لأن كل طرف يظن أنه على حق، حتى قال الشعبي عن أهل صفين: «هم أهل الجنة، لقي بعضهم بعضاً فلم يفِرّ أحدٌ من أحد». و هذا مصداق لحديث رسول الله r الثابت بالصحيحين «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يقتل بينهما مقتلة عظيمة، و دعواهما واحدة». فلما قتل عمار بن ياسر t على يد أحد من جيش الشام، ارتاع عمرو بن العاص t لعلمه أنه تقتله الفئة الباغية كما جاء في الحديث الصحيح[9]، فاقترح على معاوية التحكيم فرضي بذلك. فأرسل معاوية رجلاً يحمل المصحف إلى علي و يقول: «بيننا و بينكم كتاب الله». فقال علي: «أنا أولى بذلك. بيننا كتاب الله». و توقف القتال و انسحب الفريقان.
و قد قتل من الفريقين فيما ذكره غير واحد سبعون ألفاً: خمسة و أربعون ألفاً من أهل الشام، و خمسة وعشرون ألفاً من أهل العراق[10]. كما قال رسول الله r: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعوتهما واحدة. فبينما هم كذلك، مرق منهما مارقة، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق»[11]. قال الحافظ بن كثير: «فهذا الحديث من دلائل النبوة إذ قد وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام. و فيه الحكم بإسلام الطائفتين أهل الشام و أهل العراق لا كما يزعمه فرقة الرافضة و الجهلة الطـِّغام من تكفيرهم أهل الشام. و فيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق، و هذا هو مذهب أهل السنة و الجماعة: أن عليا هو المصيب، و إن كان معاوية مجتهداً و هو مأجور إن شاء الله. و لكن علي هو الإمام فله أجران، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص أن رسول الله r قال: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَ إِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ».
فلم يُكفِّر علي t معاوية t و لا من من معه من أهل الشام أيضاً. فقد سئل علي عن قتال يوم صفين فقال: «قتلانا و قتلاهم في الجنة، و يصير الأمر إليّ و إلى معاوية»[12]. و كان علي إذا أتي بأسير يوم صفين أخذ دابته و سلاحه و أخذ عليه أن لا يعود و خلّى سبيله. و عن يزيد بن بلال قال: شهدت مع علي صفين فكان إذا أتي بالأسير قال: «لن أقتلك صبراً؛ إنّي أخاف الله رب العالمين»، و كان يأخذ سلاحه و يحلفه لا يقاتله و يعطيه أربعة دراهم. و يصف سالم بن عبيد الأشجعي –و هو صحابي شهد المعركة– موقف علي فيقول: «رأيت علياً بعد صفين و هو أخذ بيدي، و نحن نمشي في القتلى. فجعل علي يستغفر لهم حتى بلغ أهل الشام. فقلت له: «يا أمير المؤمنين إنّا في أصحاب معاوية!». فقال علي: «إنما الحساب عليّ و على معاوية»[13]. أي أنه يرى نفسه و معاوية مسؤولـَين عمّا حدث، و هما يحاسَبان على ذلك.
و عن المسيب بن نجبة قال: «كان علي آخذا بيدي يوم صفين فوقف على قتلى أصحاب معاوية فقال: يرحمكم الله، ثم مال إلى قتلى أصحابه فترحم عليهم بمثل ما ترحم على أصحاب معاوية. فقلت: يا أمير المؤمنين استحللت دماءهم ثم تترحم عليهم؟ قال: إن الله تعالى جعل قتلنا إياهم كفارة لذنوبهم».
و كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t يقول في ليالي صفين: «لله درّ مقام عبد الله بن عمر و سعد بن مالك –و هما ممن اعتزل الفتنة– إنْ كان برّاً إنّ أجره لعظيم، و إن كان إثماً إنّ خطره ليسير»، قال إبن تيمية: «و تواترت الآثار بكراهته الأحوال في آخر الأمر، و رؤيته اختلاف الناس و تفرّقهم، و كثرة الشر، الذي أوجب أنّه لو استقبل من أمره ما استدبر، ما فعل ما فعل»[14].
فلما رجع علي من صفين، عَلِمَ أنّه لا يَملكُ أبداً، فتكلّم بأشياء كان لا يتكلم بها، و حدّثَ بأحاديث كان لا يتحدث بها، فقال فيما يقول: «أيها الناس؛ لا تكرهو إمارة معاوية! و الله لو فقدتموه لرأيتم الرؤوس تندر[15] من كواهلها كالحنظل»[16].
و ما حصل من قتال بين علي و معاوية لم يكن يريده واحد منهما، بل كان في الجيش من أهل الأهواء من يحرص على القتال، الأمر الذي أدى إلى نشوب تلك المعركة الطاحنة، و خروج الأمر من يد علي و معاوية رضي الله عنهما[17]. و أكثر الذين كانو يختارون القتال من الطائفتين لم يكونو يطيعون لا علياً و لا معاوية. و كان علي و معاوية –رضي الله عنهما– أطلب لكف الدماء من أكثر المتقاتلين، لكن غـُلِبا فيما وقع. و الفتنة إذا ثارت، عجز الحكماء عن إطفاء نارها.
و لذلك رحّب كلاهما بمبدأ تحكيم كتاب الله في نزاعهم بينهم. و أما ما يدندن عليه بعض المؤرخين من أن علياً لم يكن راغباً لا في التحكيم و لا بحقن دماء المسلمين، فهذا كذب صريح عليه. بل الثابت الصحيح أن علياً t قبل الصلح من تلقاء نفسه. و كذلك إسطورة التحكيم التي حصلت فيما بعد في أن أبا موسى الأشعري خلع علياً كما يخلع خاتمه بينما رفض عَمْر بن العاص أن يخلع معاوية، و أن النتيجة كانت أن أعلن معاوية الخلافة، فهذا كلام ظاهر البطلان، و الروايات الصحيحة تردّه. و من المستغرب فعلاً أن يردّد المؤرخون في كتبهم مثل تلك الأساطير. فمعاوية لم يدَّع الخلافة إلا بعد تنازل له عنها الحسن بن علي[18]. يقول إبن تيمية: «معاوية لم يَدَّعِ الخلافة، و لم يُبايَع له بها، حتى قـُتِـل علي. فلم يُقاتل على أنه خليفة، و لا أنه يستحقها، و كان يُقرُّ بذلك لمن يسأله»[19].
و القصة الحقيقية لحادثة رفع المصاحف هي ما أخرجه الإمام أحمد عن أبي وائل قال: كنا بصفين. فلما استحر القتل بأهل الشام، اعتصمو بتل. فقال عمرو بن العاص لمعاوية: «أرسل إلى علي بمصحف و ادعه إلى كتاب الله، فإنه لن يأبى عليك». فجاء به رجل فقال: «بيننا و بينكم كتاب الله ]ألم تر إلى الذين أوتو نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم و هم معرضون[[20]». فقال علي: «نعم. أنا أولى بذلك[21]. بيننا و بينكم كتاب الله». فجاءته الخوارج –و نحن ندعوهم يومئذ القراء– و سيوفهم على عواتقهم، فقالو: «يا أمير المؤمنين. ما تنتظر بهؤلاء القوم الذين على التل؟ ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا و بينهم؟»[22]. فأشار عليهم كبار الصحابة بمطاوعة علي و أن لا يخالف ما يشير به لكونه أعلم بالمصلحة. و ذكر لهم سهل بن حنيف t ما وقع لهم بالحديبية و أنهم رأو يومئذ أن يستمرو على القتال و يخالفو ما دُعُو إليه من الصلح، ثم ظهر أن الأصلح هو الذي كان شرع النبي r فيه[23].
——————————————————————————–
[1] تاريخ خليفة (ص193) بسند حسن. و قد خرج هذا الجيش في بداية ذي الحجة من سنة (36هـ).
[2] البداية و النهاية.
[3] كان سبعين ألفاً على أصح الروايات. مصنف ابن أبي شيبة (15/295) بإسناد حسن.
[4] المنتظم لابن الجوزي (5/117-118).
[5] المنتظم لابن الجوزي (5/118).
[6] إرواء الغليل (8/114)، و المستدرك (2/155)، و البيهقي في سننه (8/182)، و طبقات ابن سعد (7/411).
[7] مصنف ابن أبي شيبة (15/294).
[8] حدثنا معمر عن الزهري عن عبد الله بن صفوان قال: قال رجل يوم صفين… الحديث. إنظر مصنف عبد الرزاق (11/249)، و الفتن لنعيم بن حماد (1235). و كذلك أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (2905). حديث صحيح مرسل.
[9] كان كثير من أهل الشام يتأمّل أن ينضمّ عمار بن ياسر إليهم، أو على الأقل أن لا يكون قتله على يدِ أحدٍ منهم. و لذلك كان جنود الشام يفرُّون منه حتى لا يقتله أحد منهم.
[10] قدر محمد بن سيرين عدد القتلى في هذه المعركة بحوالي سبعين ألف رجل. كان منهم خمس و أربعين ألف شخص من جيش الشام، أي كان نصف الجيش قد فني فما قدِرو على عدّهم إلا بالقصب، وضعو على كل إنسان قصبة، ثم عدُّو القصب. الذهبي في تاريخ الإسلام – عهد الخلفاء الراشدين (ص545)، و معجم البلدان (3/414-415)، و مصنف ابن أبي شيبة (15/295) بإسناد حسن من مرسل ابن سيرين، و هو من أصح المراسيل. و تاريخ خليفة (ص194) مختصراً.
[11] رواه الثوري عن ابن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد. و له شواهد في الصحيحين و هو صحيح.
[12] المعجم الكبير للطبراني (19/307). و في رواية الذهبي: قال علي «قتلاي و قتلى معاوية في الجنة». سير أعلام النبلاء (3144)
[13] مصنف ابن أبي شيبة (15/303)
[14] منهاج السنة (6/209).
[15] تندر: أي تسقط.
[16] قال إبن تيمية: «و قد رُوِيَ هذا عن علي –رضي الله عنه– من وجهين أو ثلاثة». منهاج السنة (6209).
[17] أشراط الساعة ليوسف الوابل (ص103).
[18] هناك رواية مقطوعة في تاريخ الطبري (3166) عن سعيد بن عبد العزيز قال: « كان علي عليه السلام يدعى بالعراق أمير المؤمنين، و كان معاوية يدعى بالشام الأمير. فلما قُتِل علي عليه السلام، دُعي معاوية أمير المؤمنين». فمن المحتمل جداً أن يكون معاوية دعى نفسه للخلافة في القدس بعد وفاة علي بن أبي طالب و قبل تنازل الحسن له عنها. و السؤال هنا: من كانت خلافته قبل: الحسن أم معاوية؟ فإن كانت خلافة معاوية أولاً بطلت خلافة الحسن. و إن كانت خلافة الحسن أولاً صحّت خلافة معاوية بعد أن تنازل الحسن له عنها فقط. و لم أقع على رواية صحيحة تحسم الموقف.
[19] مجموع الفتاوى ( 35/72).
[20] (آل عمران:23).
[21] أي بالإجابة إذا دعيت إلى العمل بكتاب الله لأنني واثق بأن الحق بيدي.
[22] إنظر تمام قول سهل بن حنيف t في مسند أحمد (3485)، فقد اختصرته هنا.
[23] إنظر فتح الباري (8588).