و فيها 1 من المصادر و 3 مراجع
و أرجوكم لا تخيبون ظني فيكم
أباها ضروري ….. ضروري ….ضروري
اشحالج ان شاء الله تمام
https://www.uae.ii5ii.com/showthread.php?t=263
______________________________________________
أحمد أمين
1886- 7 195
يقول طه حسين: "لقد اهدى احمد امين الى العالم الحديث بتاليف فجر الاسلام وضحاه وظهره كنزاً من اقوم الكنور واعظمها حظاً من الغنى واقدرها على البقاء ومطاولة الزمان والاصراح." في حياتي يسعى احمد امين لتقديم صورة صادقة عن نموه منذ مراحل الطفولة الباكرة حتى اواخر عمره ، موضحاً كيفية تكون الشخصية التي قدمت للعالم العربي فجر الاسلام . فقد كان من المعتقدين بدور البيئة في خلق الشخصية ، اذ يقول في بداية سيرته : "كل انسان – الى حد كبير – نتيجة لجميع ما ورثه عن آبائه وما اكتسبه من بيئته التي احاطت به ." وهو يذكر في هذا السياق عوامل عدة منها تاثير اسرته التي ترعرع في ظلالها عليه ، والحارة التي ترعرع فيها ، الكتاب والازهر . ثم يصف عمله الجامعي كاستاذاً بكلية الاداب وعميداً لها.
في الصفحات التالية ، يصف احمد امين تجاربه الاولى مع اسرته ، ويوضح كيف اثرت في شخصيته لاحقاً. فالقسوة في معاملته كطفل تدفعه للجدية، ولعدم القدرة على مشاركة الاخرين الافراح، بل انه يبات جدياً اقرب للكابة في طبعه طوال العمر. هو يصف ايضاً مساعيه لتوسيع حدود تعليمه التراثي في الازهر عن طريق تعلم اللغة الانجليزية،وتاثير القراءة باكثر من لغة على اسلوبه في التفكير. بل انه يقدم رؤية خاصة للغة العربية وكيفية استخدام المحدثين لها ، اذ يدعوا للغة بسيطة يقدر القاريء العادي على فهمها. سيجد القاريء هنا ايضاً وصفاً لزواج احمد امين وتحليلاً لمزايا وشرور العلاقة الزوجية يتميز بصراحة يندر ان نعثر عليها في ادب المذكرات العربي المعاصر .
حياتي[1]
ما انا الا نتيجة حتمية لكل ما مر علي وعلى ابائي من أحداث. فالمادة لا تنعدم وكذلك المعاني. قد يموت الطير وتموت الحشرات والهوام ، ولكنها تتحلل في تراب الارض فتغذي النبات والاشجار . قد يتحول النبات والاشجار الى فحم ، ويتحول الفحم الى نار، وتتحول النار الى غاز ، ولكن لا شيء من ذلك ينعدم . حتى اشعة الشمس التي تكون الغابات وتنمي الاشجار تُختزن في الظلام، فاذا سُلطت عليها النار تحولت الى ضوء وحرارة وعادت الى سيرتها الاولى.
وكذلك الشأن في العواطف والمشاعر والافكار والاحيلة ، تبقى ابداً ، وتعمل عملها ابداً. فكل ما يلقاه الانسان من يوم ولادته ، وكل ما يلقاه اثناء حياته ، يستقر في قرارة نفسه ، ويسكن في اعماق حسه، سواء في ذلك ما وعى وما لم يعي، وما ذكر وما نسى ، وما لذ وما آلم. فنبحة الكلب يسمعها ، وشعلة النار يراها ، وزجرة الاب او الام يتلقاها ، واحداث السرور والالم تتعاقب عليه. كل ذلك يتراكم ويتجمع ، ويختلط ويمتزج ويتفاعل، ثم يكون هذا المزيج وهذا التفاعل اساساً لكل ما يصدر عن الانسان من اعمال نبيلة وخسيسة-وكل ذلك ايضاً هو السبب في ان يصير الانسان عظيماً او حقيراً ، قيماً او تافهاً. فكل ما لقينا من احداث في الحياة ، وكل خبرتنا وتجاربنا ، وكل ما تلقته حواسنا او دار في خلدنا هو العامل الاكبر في تكوين شخصياتنا – فان رايت مكتئباً بالحياة ساخطاً عليها متبرماً بها ، او مبتهجاً بالحياة راضياً عنها متفتحاً قلبه لها ، او رايت شجاعاً مغامراً كبير القلب واسع النفس ، او جباناً ذليلاً خاملاً وضيعاً ضيق النفس ، او نحو ذلك ، فابحث عن سلسلة حياته من يوم ان تكون في ظهور ابائه – بل قد تحدث الحادثة لا يابه الانسان بها وتمر امام عينيه مر البرق، او يسمع الكلمة العابرة لا يقف عندها طويلاً ، او يقرأ جملة في كتاب قراءة خاطفة ، فتسكن هذه كلها في نفسه وتختبيء في عالمه اللاشعوري ، ثم تتحرك في لحظة من اللحظات لسبب من الاسباب فتكون باعثاً على عمل كبير او مصدراً لعمل خطير . وكل انسان – الى حد كبير – نتيجة لجميع ما ورثه عن ابائه ، وما اكتسبه من بيئته التي احاطت به .
ولو ورث أي انسان ما ورثت ، وعاش في بيئة كالتي عشت، لكان اياي او ما يقرب مني جداً.
لقد عمل في تكويني الى حد كبير ما ورثت عن آبائي ، والحياة الاقتصادية التي تسود بيتنا ، والدين الذي يسيطر علينا ، واللغة التي نتكلم بها ، وادبنا الشعبي الذي كان يروي لنا ونوع التربية الذي كان مرسوماً في ذهن ابوي ولو لم يستطيعا التعبير عنه ورسم حدوده ونحو ذلك . فانا لم اصنع نفسي ولكن صنعها الله عن طريق ما سنه من قوانين الوراثة والبيئة .
عجيب هذا العالم ، ان نظرت اليه من زاوية رايته كلاً متشابهاً ، بتجانس في تكوين ذراته ، وفي بناء اجزائه ، وفي خضوعه لقوانين واحدة ، وان نظرت اليه من زاوية اخرى رايت كل جزيئة منه تتفرد عن غيرها بمميزات خاصة بها، لا يشاركها فيها غيرها . حتى شجرة الورد نفسها تكاد تتميز كل ورقة فيها عن مثيلاتها . فمن الناحية الاولى تستطيع ان تقول : ما اشبه الانسان بالانسان. ومن الناحية الثانية تقول: ما اوسع الفرق بين الانسان والانسان.
وعلى هذه النظرة الثانية فانا عالم وحدي ، كما ان كل انسان عالم وحده . تقع الاحداث على اعصابي ، فانفعل لها انفعالا خاصاً بها، واقومها تقويماً يختلف – قليلاً او كثيراً – عن تقويم كل مخلوق آخر غيري. فالحادثة الواحدة يبكي منها انسان ، ويضحك منها آخر، ولا يبكي ولا يضحك منها ثالث ، كأوتار العود الواحد ، يوقع عليها كل فنان توقيعاً منفرداً متميزاً لا يساويه فيه أي فنان آخر.
فانا اروي من الاحداث ما تاثرت به نفسي ، واحكيها كما رات عيني ، واترجمها بمقدار ما انفعل بها شعوري وفكري.
-3-
كانت اول مدرسة تعلمت فيها اهم دروسي في الحياة بيتي. وقد بني أبي – بعد ان تحسنت حاله -بيتاً مستقلاً في الحارة التي يسكنها هو وأخوه ، يتكون من دورين غير الارضي. ففي الدار الارضي منظرة للضيوف وكل دور به ثلاث غرف وتوابعها.
وطابع البيت كان البساطة والنظافة . فاثاث اكثر الحجر حصير فرشت عليه سجادة ، واذا كانت حجرة نوم رأيت في ركن من اركانها حشية ولحافاً ومخدة ، تطوي في الصباح وتبسط في المساء . فلم نكن نستخدم الاسرة . وادوات المطبخ في غاية السذاجة . وهكذا ، ولو اردنا ان ننتقل لكفتنا عربة كبيرة لنقل الاثاث. اما اكثر ما في البيت واثمنه وما يشغل اكبر حيز فيه فالكتب – المنظرة مملوءة دواليب صففت فيها الكتب ، وحجرة ابي مملوءة بالكتب وحجرة في الدور الاول ملئت كذلك بالكتب .
وكان ابي مولعاً بالكتب في مختلف العلوم ، في الفقه … والتفسير والحديث واللغة والتاريخ والادب والنحو والصرف والبلاغة ، واذا كان الكتاب مطبوعاً طبعتين : طبعة اميرية وطبعة اهلية لم يرتح حتى يقتنيه طبعة اميرية ، وقد مكنه عمله مصححاً في المطبعة الاميرية ان يقتني كثيراً مما طبع فيها وكانت هذه الكتبة اكبر متعة لي حين استطت الاستفادة منها . وقد احتفظت بخيرها واتخذته نواة لمكتبتي التي اعتز بها وامضي الساعات فيها كل يوم الى الان .
في حجرة في هذا البيت ولدت. وكانت ولادتي في الساعة الخامسة صباحاً من أول اكتوبر سنة 1886، وكأن هذا التأريخ كان ارهاصاً باني سأكون مدرساً فأول أكتوبر عادة بدء افتتاح الدراسة. وشاء الله ان اكون كذلك . فكنت مدرساً في مدرسة ابتدائية ، ثم في مدرسة ثانوية ثم في عالية ، وكنت مدرساً لبنين وبنات ، ومشايخ وافندية ، وكنت رابع ولد وُلد. ولم يكن ابي يحب كثرة الاولاد شعوراً منه بالمسؤولية ، ولما لقي من الحزن العميق في وفاة اختى ابشع وفاة.
فقد كان لي اخت في الثانية عشرة من عمرها شاء ابي الا تستمر في البيت من غير عمل فأرسلها الى معلمة تتعلم عندها الخياطة والتفصيل والتطريز . وقامت يوماً بعد القهوة لضيوف المعلمة فهبت النار فيها واشتعل شعرها وجسمها وحاولت ان تطفيء نفسها اول الامر فلم تنجح فصرخت ، ولكن لم يدركوها الا وهي شعلة نار ، ثم فارقت الحياة بعد ساعات. وكان ذلك وانا حمل في بطن امي . فتغذيت دماً حزيناً ورضعت بعد ولادتي لبناً حزيناً، واستقبلت عند ولادتي استقبالاً حزيناً. فهل كان لذلك اثر فيما غلب علي من الحزن في حياتي فلا افرح كما يفرح الناس ، ولا ابتهج بالحياة كما يبتهجون؟ علم ذلك عند الله والراسخين في العلم .
وكان من محاسن اسرتنا استقلالنا في المعيشة وفي البيت ، فلا حماة ولا أقارب الا ان يزوروا لماماً .
وكان بيتنا محكوماً بالسلطة الابوية : فالاب وحده مالك زمام اموره ، لا تخرج الام الا باذنه ، ولا يغيب الاولاد عن البيت بعد الغروب حوفاً من ضربه ، ومالية الاسرة كلها في يده يصرف منها كل يوم ما يشاء كما يشاء ، وهو الذي يتحكم حتى فيما نأكل وما لا نأكل ، يشعر شعوراً قوياً بواجيه نحو تعليم أولاده ، فهو يعلمهم بنفسه ويشرف على تعليمهم في مدارسهم ، سواء في ذلك ابناؤه وبناته ، ويتعب في ذلك نفسه تعباً لا حد له ، حتى لقد يكون مريضاً فلا يأبه بمرضه ، ويتكيء على نفسه ليلقي علينا درسه. اما ايناسنا وادخال السرور والبهجة علينا وحديثه اللطيف معنا فلا يلتفت اليه، ولا يرى انه واجب عليه ، يرحمنا ولكنه يخفي رحمته ويظهر قسوته ، وتتجلى هذه الرحمة في المرض يصيب احدنا ، وفي الغيبة اذا عرضت لاحد منا ، يعيش في شبه عزلة في دوره العالي ، يأكل وحده ويتعبد وحده ، وقلما يلقانا الا ليقرئنا . أما احاديثنا وفكاهتنا ولعبنا فمع امنا .
وقد كان لنا جدة – هي ام امنا – طيبة القلب شديدة التدين ، يضيء وجهها نوراً ، تزورنا من حين لآخر ، وتبيت عندنا فنفرح بلقائها وحسن حديثها ، وكانت تعرف من القصص الشعبية – الريفية منها والحضرية – الشيء الكثير الذي لا يفرغ ، فنتحلق حولها ونسمع حكاياتها ولا نزال كذلك حتى يغلبنا النوم ، وهي قصص مفرحة احياناً مرعبة احياناً ، منها مايدور حول سلطة القدر وغلبة الحظ ، ومنها ما يدور حول مكر النساء ودهائهن ، ومنها حول العفاريت وشيطنتها ، والملوك والعظماء وذلهم امام القدر "الخ" ، وتتخلل هذه القصص الامثال الشعبية اللطيفة والجمل التي يتركز عليها مغزى القصة .
ولكن كان بيتنا-على الجملة- جداً لا هزل فيه ، متحفظاً ليس فيه ضحك كثير ولا مرح كثير ، وذلك من جد أبي وعزلته وشدته .
ولم تكن المدنية قد غزت البيوت ، وخاصة بيوت الطبقة الوسطى امثالنا. فلا ماء يجري في البيوت وانما هو سقاء يحمل القربة على ظهره ويقذف ماءها في زير البيت تملأ منه القلل وتغسل عنه المواعين وكلما فرغت قربة أحضر قربة . والسقاء دائم المناداة على الماء في الحارة ، وحسابه لكل بيت عسير ، اذ هو ياخذ ثمن مائه كل اسبوع. فتارة يتبع طريقة ان يخط خطاً على الباب كلما احضر قربة . ولكن بعض الشياطين يغالطون فيمسحون خطاً او خطين ، لذلك لجأ لاسقاء الى طريقة "الخرز" فيعطي البيت عشرين خرزة ، وكلما احضر قربة اخذ خرزة ، فاذا نفذت كلها حسب اهل البيت عليها .
وأخيراً – وانا فتى – رأيت الحارة تحفر والانابيب تمد والمواسير والحنفيات تركب في البيوت واذا الماء في تناولنا وتحت أمرنا ، واذا صوت السقاء يختفي من الحارة ويريحنا الله من الخطوط تخط او الخرز يوزع .
وطبيعي في مثل هذه الحال الا يكون في البيت كهرباء فكنا نستضيء بالمصابيح تضاء بالبترول ، ولم نستضيء بالكهرباء حتى فارقت حينا الى حي آخر أقرب الى الارستقراطية .
وطعامنا يطهى على الخشب ثم تقدمنا فطهينا على رجيع الفحم (فحم الكوك) ثم تقدمنا اخيراً فطهينا على (وابور بريمس)
وكل اعمال البيت تقوم بها امي . فلا خادم وخادمة ولكن يعينها على ذلك ابناؤها فيما يقضون من الخارج ، وكبرى بناتها في الداخل .
وكان ابي مدرساً في الازهر ومدرساً في مسجد الامام الشافعي وامام مسجد ويتقاضي من كل ذلك نحو انثي عشر جنيهاً ذهباً . فلم نكن نعرف عملة الورق ، واذكر -وانا في المدرسة الابتدائية – ان ظهرت عملة الورق فخافها الناس ولم يؤمنوا بها وتندرت الجوائد الهزلية عليها . وكانت لا تقع في يد الناس-وخاصة الشيوخ – حتى يسرعوا الى الصيارف فيغيروها ذهباً. وكانت الاثنا عشر جنيهاً تكفينا وتزيد عن حاجتنا ويستطيع ابي ان يدخر منها للطواريء ، اذ كانت قدرتها الشرائية تساوي الاريعين جنيهاً والخمسين اليوم ، فعشر بيضات بقرش ، ورطل اللحم بثلاثة قروش او اربعة ورطل السمن كذلك وهكذا . ومن ناحية اخرى كانت مطالب الحياة محدودة وعيشتنا بسيطة. فابي من بيته الى عمله الى مسجده ثم الى بيته ، لا يدخن ولا يجلس على مقهى ، وملابسنا جميعاً نظيفة بسيطة ، ومأكلنا معتدل ليس بضروري فيه تعدد اصنافه، ولا اكل اللحم كل يوم . ولم نر فيمن حولنا عيشة خيراً من معيشتنا تشقي بالطموح الى ان نعيش مثلها ، ولا سينما ولا تمثيل. ولكن من حين لآخر نتصب خيمة على باب حارتنا يلعب فيها "قرة جوز" ادخل اليها بنصف قرش ويكون ذلك مرة في السنة او مرتين .
وغمر البيت الشعور الديني: فابي يؤدي الصلوات لاوقاتها ويكثر من قراءة القرآن صباحاً ومساء ، ويصحو مع الفجر ليصلي ويبتهل ، ويكثر من قراءة التفسير والحديث ، ويكثر من ذكر الموت ويقل من قيمة الدنيا وزخرفتها ويحكي حكايات الصالحين واعمالهم وعبادتهم ، ويؤدي الزكاة يؤثر بها اقرباءه ويحج وتحج امي معه – ثم هو يربي اولاده تربية دينية فيوقظهم في الفجر ليصلوا ويراقبهم في اوقات الصلاة الاخرى ويسائلهم متى صلوا واين صلوا . وامي كانت تصلي الحين بعد الحين ، وكلنا يحتفل برمضان ويصومه- وعلى الجملة فانت اذا فتحت باب بيتنا شممت منه رائحة الدين ساطعة زاكية ، ولست انسى يوماً اقيمت فيه حفلة عرس في حارتنا ، وقدمت فيه المشروبات الروحية لبعض الحاضرين فشوهد اخي المراهق يجلس على مائدة فيها شراب ، فبلغ ذلك ابي فما زال يضربه حتى اغمي عليه . وكان معي يوماً قطعة بخمسة قروش فحاولت ان اصرفها من بائع سجائر فشاهدني اخي الكبير فاخذ يسالني ويحقق معي تحقيق "وكيل النيابة" مع المتهم ، خوفاً من ان اكون اشتري سجائر لادخنها اذ ليس احد في البيت يحدث نفسه ان يشرب سجارة.
وبعد ، فما اكثر ما فعل الزمان! لقد عشت حتى رايت سلطة الاباء تنهار ، وتحل محلها سلطة الامهات والابناء والبنات واصبح البيت برلماناً صغيراً ، ولكنه برلمان غير منظم ولا عادل فلا تؤخذ فيه الاصوات ولا تتحكم فيه الاغلبية ، ولكن يتبادل فيه الاستبداد. فاحياناً تستبد الام، واحياناً تستبد البنت او الابن وقلماً يستبد الاب. وكانت ميزانية البيت في يد صراف واحد فتلاعبت بها ايدي الصرافين ، وكثرت مطالب الحياة لكل فرد وتنوعت، ولم تجد راياً واحداً يعدل بينها ، ويوزن بين قيمتها ، فتصادمت وتحاربت وتخاصمت ، وكانت ضحيتها سعادة البيت وهدوءه وطمأنينته .
وغزت المدنية المادية البيت فنور كهربائي وراديو وتلفزيون ، وادوات للتسخين وادوات للتبريد ، واشكال والوان من الاثاث . ولكن هل زادت سعادة البيت بزيادتها ؟
وسفرت المرأة وكانت أمي واخراتي محجبات – لا يرين الناس ولا يراهن الناس الا من وراء حجاب- وهكذا من امورالانقلاب الخطير ، ولو بعث جدي من سمخراط وراى ما كان عليه اهل زمنه وما نحن عليه اليوم لجن جنونه ، ولكن خفف من وقعها علينا انها تاتي تدريجياً ، ونالفها تدريجياً ، ويفتر عجبنا منها واعجابنا بها على مر الزمان ، ويتحول شيئاً فشيئاً من باب الغريب الى باب المالوف.
– 17-
..احسست حاجتي الشديدة الى لغة اجنبية ، فدروسي في الاخلاق مصدرها مذكرات عاطف بك التي نقلها عن الانجليزية ، وانا شيق الى ان اتوسع فيها ، ومن حولي من الاساتذة العصريين يستفيدون اكبر فائدة من مادتهم التي يحضرونها من اللغة الانجليزية او الفرنسية ، وقد اخفقت في تعلم الفرنسية ، فلاجرب حظي في الانجليزية.
ويوماً قابلت صديقي احمد بك امين ، وجلسنا في مقهى ، وذهب الحديث فنوناً الى ان وجدته يقول انه عثر على كتاب انجليزي قيم لمستشرق امريكي اسمه مكدونالد ، وانه قسم كتابه الى ثلاثة اقسام : قسم يتعلق بنظام الحكم في الاسلام ، وقسم في الفقه الاسلامي ، وقسم في المذاهب والعقائد الاسلامية. واخذ يطري الكتاب ويحكي بعض ارائه ، فاستفزني الموضوع وقلت : هل تستطيع الآن ان تذهب معي الى مدرسة (برليتز) لارتب دروساً لي في الانجليزية؟ فقبل ، واقسمت ان اتعلم وان اقرأ هذا الكتاب في لغته . وذهبنا الى المدرسة ورتبنا دروساً ثلاثة في الاسبوع بمائة وخمسين قرشاً كل شهر. واشتريت الكتاب الاول ، وتولى تعليمي سيدة انجليزية يظهر انها فقيرة الحال، تحسن الانجليزية لانها انجليية، وان لم تكن مثقفة الا الثقافة الضرورية. وبذلت في ذلك مجهوداً شاقاً ، اقرأ في البيت وأحفظ في الطريق واذاكر اذا كنت مراقباً في الامتحان او مشرفاً على حصة العاب رياضية ، والدرسة بهذا الشكل عسيرة اذ لم اكن في فصل يتعاون الطلبة فيه على التعليم، ولم اكن في بيئة تعود سمعي اللغة ، ويقول لي الشيخ الخضري ، لقد جرب هذ التجربة مئات من طلبة دار العلوم ، فساروا خطوات ثم وقفوا ، ولم ينجح منهم الا من كان بعثة الى انجلترا ، فقلت له سأجرب كما جربوا ولكن سانجح اذا فشلوا .
وبعد شهرين في هذا الجهد احضرت كتيباً صغيراً عنوانه "الاسلام Islam" للسيد امير علي ، وقلت ان موضوعه معروف لي ومعرفة الموضوع تعين على الفهم . ولكني قرأت الصفحة الاولى فلم افهم ، فظللت اصرف اكثر من ثلاث ساعات في الصفحة ، اكشف في المعجم العربي عن كل كلمة حتى "من" و"عن" وانا جاد صابر. ومكثت على ذلك سنة، اتممت فيها الجزء الاول والثاني من كتب برليتز وبدأت الجزء الثالث في السنة الثانية . وفيه بعض فصول في الادب والانجليزي وتاريخه. فاحسست ان هذه المدرسة غير ملمة بتاريخ الادب وانها لا تصلح لتدريس هذا الكتاب ، فبحثت عن مدرس آخر او مدرسة اخرى .
ووفقت الى سيدة انجليزية كان لها اثر عظيم في عقلي ونفسي .
مس بور (Power) سيدة في نحو الخامسة والخمسين من عمرها ، ضخمة الجسم مستديرة الوجه ، يوحي منظرها بالقوة والسيطرة، بسيطة في ملبسها وزينتها . مثقفة ثقافة واسعة ، تجيد الانجليزية والفرنسية والالمانية ، ذات رأي تعتد به جريدة التيمس فترحب بمقالاتها ، عرفت الدنيا من الكتب ومن الواقع ، اقامت في فرنسا سنين وفي المانيا سنين وفي امريكا سنين فكملت تجاربها واتسع افقها ، حضرت الى مصر ووافقها جوها فاقامت فيها ولكن ليس لها من المال ما يكفيها للاقامة طويلاً، فهي تستاجر بيتاً خالياً في ميدان الازهار وتفرش حجراته ، وتؤجرها للراغبين فتكسب من ذلك نحو ثلاثين جنيهاً في الشهر تكون اساس عيشها. ثم هي رسامة فنانة ، تاخذ ادواتها الى سفح الهرم فترسم الصور الزيتية لمنظر الاهرام والفيضان وما يحيط بهما من منظر جميل او نحو ذلك من مناظر طبيعية ترسمها بالزيت وتتانق فيها ، وتقضي في رسمها الايام والاشهر وتبيعها بثمن كبير ، ثم هي تدرس الرسم والتصوير لبنات رئيس وزارة ، ثم هي تقبل ان تدرس لي درساً في اللغة الانجليزية بجنيهين كل شهر ، ولا تعاملني معاملة مدرسة لتلميذ، بل معاملة ام قوية لابن فيه عيوب من تربية عتيقة.
ابتدات ادرس معها الجزء الثالث من سلسلة كتب بيرليتز ، اقرأ فيه وتفسر لي ما غمض وتصلح لي ما اخطات ، ثم اضع الكتاب واحدثها وتحدثني في أي موضوع اخر يعرض لنا. ولا ادري لماذا لا يعجبها مني ان اضع العمامة بجانبي اذا اشتد الحر ـ بل تلزمني دائماً بوضعها فوق راسي . ونستمر على ذلك نحو الساعتين اتكلم كثيراً وتتكلم قليلاً ، وتنفق اكثر ما تاخذه مني في اشكال مختلفة لنفعي، فهي تدعو بعض اصحابها الانجليز من رجال ونساء الى الشاي ، وتدعوني معهم لاتحدث اليهم ويتحدثوا الى ، فاسمع لهجانهم ويتعود سمعي نطقهم واصغي الى آرائهم وافكارهم واقف على تقاليدهم ، ومرة ترسلني الى سيدة انجليزية صديقة لها اكبر منها سناً قد عدا عليها المرض فالزمها سريرها لاتحدث اليها . تقصد بذلك ان هذه المريضة تجد في تسلية لعزائها وفرجاً من كربتها ، وانا اجد فيها ثرثارة لا تنقطع عن الكلام ، فاستمع الى قولها الانجليزي الكثير رغم انفي.
وتوثقت الصلة بيننا فكانني كنت من اسرتها ، وهي لا تعني بي من ناحية اللغة الانجليزية وآدابها فحسب ، بل هي تشرف على سلوكي واخلاقي . لاحظت في عيبين كبيرين فعملت على اصلاحهما ، ووضعت لي مبدأين تكررهما على في كل مناسبة.
راتني شاباً في السابعة والعشرين اتحرك حركة الشيوخ ، وامشي في جلال ووقار ، واتزمت في حياتي ، فلا موسيقى ولا تمثيل ولا شيئاً حتى من اللهو البريء واصرف حياتي بين دروس احضرها ودروس القيها ، ولغة اتعلمها ، وراتني مكتئب النفس منقبض الصدر ينطوي قلبي على حزن عميق ، وراتني لا ابتهج بالحياة ولا يتفتح صدري للسرور ، فرضعت لي مبدأ هو : "تذكر انك شاب" تقوله في كل مناسبة وتذكرني به من حين الى حين.
والثاني انها رات لي عيناً مغمضة لا تلتفتت الى جمال زهرة ولا جمال صورة ولا جمال طبيعة ولا جمال انسجام وترتيب ، فوضعت لي المبدأ الآخر : "يجب ان يكون لك عين فنية" فكنت اذا دخلت عليها في حجرتها وبدأت آخذ الدرس واتكلم في موضوعه صاحت في : "الم تر في الحجرة ازهاراً جميلة تلفت نظرك وتثير اعجابك فتتحدث عنها؟" وكانت مغرمة بالازهار تعني بشرائها وتنسيقها كل حين ، وتفرقها في اركان الحجرة وفي وسطها ، ويؤلمها اشد الالم ان ادخل على هذه الازهار فلا احييها ولا ابدي اعجابي بها واعجابي بفنها في تصفيفها .
ويوماً آخر ادخل الحجرة فاتذكر الدرس الذي اخذته في غزل الزهور فاحيي وردها وبنفسجها وياسمينها وكل ما احضرت من ازهار، فتلتفت الي وتقول: اليست لك عين فنية؟" اعجب من هذا الاستنكار، وقد حييت الازهار، فتقول: الم تلحظ شيئاً؟ "فاجيل عيني في الحجرة فلا ارى شيئاً جديداً غير الزهر الجديد، فتقول: "الم تلحظ الحجرة وقد غير وضع اثاثها؟ لقد كان الكرسي هنا فصار هاهنا ، وكانت الاريكة هنا فصارت هاهنا؟" وتقول : "قد سئمت الوضع القديم وتعبت عيني من رؤيته ، فغيرت وضعه لتستريح عيني" ، وهكذا.
لازمتها اربع سنوات ، استفدت فيها كثيراً من عقلها وفنها ولكنني لا اظن انني استفدت من تكرارها على سمعي ان اتذكر دائماً اني شاب.
انتهيت من الجزء الثالث ، واخترت ان اقرأ معها كتباً اخرى ، في الاخلاق احياناً وفي الاجتماع احياناً، وفي آخر المرحلة قرأت معها فصولاً كثيرة من جمهورية افلاطون بالانجليزية ، فكان هذا الكتاب مظهر سعة عقلها وكثرة تجاربها، فكنت اقرأ الفصل فتشرحه لي ، وتبين ما طرأ على فكرة أفلاطون من التغير وما بقي من آرائه الى اليوم ، وكيف طبق هذا المبدأ في المدنية الحديثة في الامم المختلفة ، وهكذا.
ولا ادري ما الذي انتابها فقد رايتها تكثر من القراءة في كتب الارواح ، ثم تمعن في قراءتها، ثم تذكر أي انها خصصت ساعتين تغلق عليها حجرتها ، وترخي ستائرها، وتغمض عينيها، وتركز روحها في مريض تعالجه وهو في داره وهي في دارها، او تجرب تجربة اخرى ان ترسل من روحها شارة لاسلكية لصاحب لها تنبئه ان يحضر او لا يحضر ، وان يعد كذا او لا يعد ، وهكذا، وقد نجحت في بعض الاحوال دون بعض فلم تشأ ان تعتقد ان هذا مصادفة، ولكنها اعتقدت ان ما نجحت فيه فانما نجحت لان الامر قد استوفى شروطه، ومالم نتجح فيه لم تستكمل عدته، فزاد اجتهادها، وطالت ساعات عزلتها، وامعنت في تركيز روحها، كل ذلك وانا انصحها الا تفرط في هذا خشية عليها فلا تسمع، لانها تامل ان تصل من ذلك الى نجاح باهر.
وذهبت اليها يوماً فرايتها مصفرة الوجه مضطربة الاعصاب خفاقة العينين، فسالتها عما بها، فاخبرتني انها ذهبت اليوم صباحاً الى كوبري قصر التيل وهمت ان ترمي نفسها في النيل، ثم رايتها نذكر لي انها اخفقت هذه المرة في الانتحار، ولكنها ستنجح في مرة اخرى، فخرجت من عندها اسفاً باكياً، واتصلت بطبيب للامراض العقلية فحضر ورآها، واخبرني انه لابد من ارسالها فوراً الى مستشفى للمجاذيب، وكذلك كان. وكنت اعودها من حين الى حين، فاذا جلست اليها تحدثت كعادتها حديثاً هادئاً معقولاً، وسالتها مرة: ماذا بها؟ فقالت لا شيء بي الا انني فقدت الارادة فاذا اطلق سراحي الان لا دري اين اتجه. ثم تولت امرها القنصلية الانجليزية فاسفرتها الى بلدها. واخيراً -وبعد نحو سنتين-جائني خطاب بعنواني بمدرسة القضاء عليه طابع ايطالي ففضضته فاذا هو من مس بور تخبرني انها شفيت من مرضها، وانها الان في روما، تتمتع بجمال مناظرها وروعة كنائسها، فرددت عليها فرحاً بشفائها ، ثم انقطعت عني الى اليوم اخبارها رحمها الله.
وفي هذه الفترة التي كنت ادرس فيها مع "مس بور" جائني صديق وقال انه يعرف اسرة انجليزية تتكون من زوج وزوجة يريدان ان يتعلما العربية وانا اعلم الزوج فهل لك ان تعلم الزوجة؟ قلت لا اعلمها بمال ولكن اتبادل معها ، فاعلمها العربية وتعلمني الانجليزية ، وعرض عليها ذلك فرضيت.
سيدة انجليزية في ريعان الشباب جميلة الطلعة لها عينان تبعثان في النفس معنى الصفاء والطهارة والثقة، تعيش مع زوجها الانجليزي المدرس بالمدرسة الخديوية الثانوية عيشة ارستقراطية فخمة. مولعان بركوب الخيل والتروض عليها عصر كل يوم ، يستمتعان بالزواج الجديد السعيد. كنا نقضي ساعتين في الدرس مرتين في الاسبوع، ساعة تعلمني الانجليزية وساعة اعلمها العربية واختارت لي ان اقرا معها كتاب "قصص شيكسبير للامب"
وكنت اترقب موعد هذا الدرس بشوق ولهفة ، وكانت هذه السيدة تغذي عواطفي برقتها وجمالها وكمالها، كما كانت مس بور تغذي عقلي بثقافتها واطلاعها وتجاربها.
كنت احدثها يوماً ، وقد قامت الحرب العالمية الاولى فزل لساني ونقدت الانجليز نقداً خفيفاً امامها، فما كان منها الا ان دمعت عينها وقالت في رقة : "اتعيب قومي وامتي!" فخجلت خجلاً شديداً وقدرت وطنيتها التي يجرحها النسيم ، ولم اعد بعد لمثلها، واستمررت على ذلك اكثر من سنة قرأت معها هذه القصص، وعلمتها قدراً لا باس به من العربية. وكان بصعب عليها النطق بالعين ، فكانت تقول: ان عينكم تؤلمني، وكنت اقول في نفسي مثل قولها . وكان لها نقد لطيف لما تتعلمه من العربية-نقد لا ندركه نحن لانها لغتنا. نشانا فيها ورضعناها مع لبن امنا والفناها منذ صغرنا . قالت لي مرة: ان اللغة العربية غير منطقية، الا تراها تؤنث الشمس وهي قوية جبارة وتذكر القمر وهو لطيف وديع، فاولى ان نذكر الشمس ونؤنث القمر كما نفعل نحن في لغتنا . وقالت مرة الا تعجب من لغتكم تقول ثلاثة كتب ، وتقول الف كتاب، وكان الاولى ما دمت تقول ثلاثة كتب ان تقول الف كتب . وهكذا من طرائفها الظريفة . واشتدت الحرب فجند زوجها ، وانقطع عني خبره وخبرها.
ما ذا كنت اقول لو لم اجتز هذه المرحلة؟ لقد كنت ذا عين واحدة فاصبحت ذا عينين، وكنت اعيش في الماضي والحاضر، وكنت اكل صنفاً واحداً من مائدة واحدة فصرت اكل من اصناف متعددة على موائد مختلفة، وكنت ارى الاشياء ذات لون واحد وطعم واحد، فلما وضعت بجانبها الوان اخرى وطعوم اخرى تفتحت العين للمقارنة وتفتح العقل للنقد. لو لم اجتز هذه المرحلة ثم كنت اديباً لكنت اديباً رجعياً، يعني بتزويق اللفط لا جودة المعنى، ويعتمد على ادب الاقدمين دون ادب المحدثين ، ويلتفت في تفكيره الى الاولين دون الآخرين ، ولو كنت مؤلفاً لكنت جماعاً اجمع مفترقاً او افرق مجتمعاً من غير تمحيص ولا نقد . فانا مدين في انتاجي الضعيف في الترجمة والتاليف والكتابة الى هذه المرحلة بعد المراحل الاولى ، وهذه الزهرة الجديدة الفت باقة مع الازهار القديمة.
18
ثم ان لهذه المرحلة تكملة . فقد كانت السنة سنة 1914 وقد تخرج من مدرسة المعلمين العليا بضعة من خيار الطلبة عرفوا بالتفوق في العلم والخلق، كان اكثرهم مرشحاً للبعثة الى انجلترا ثم منعهم قيام الحرب، وكان بعضهم من القسم العلمي وبعضهم من القسم الادبي[1] ، شاءت الظروف السعيدة ان اتعرف بهم وان اصادقهم ، رايتهم مثقفين من غير جنس ثقافتي، ثقافتهم عصرية بحتة ، وثقافتي شرعية كثيراً وعصرية قليلاً ، منهم الذي بلغ درجة جيدة في الجغرافيا والتاريخ العام والادب الانجليزي، ومنهم من بلغ هذه الدرجة في الرياضة والطبيعة والكيمياء ، وكلهم يعرف من الدنيا الجديدة والمدنية الحديثة اكثر مما اعرف ، بحكم ثقافتهم وثقافتي. وقد اخترنا قهوة تطل على ميدان عابدين صاحبها لغوي شاعر يتلقفنا اذا حضرنا ليعرض علينا رايه في كلمة اكتشف انها غير صحيحة لانها لم ترد في معاجم اللغة ، او ليسمعنا قصيدة من نظمه يحملنا على الاعجاب بها ولو من باب المجاملة . على كل حال كان يجتمع هؤلاء الصحاب في هذه القهوة عصر بعض الايام فتكون منهم مائدة شهية مختلفة الطعوم متعددة الالوان .
هذا مغرم بالقصص الانجليزية يقرأ منها الكثير ، وله ذوق حسن في الاختيار وشهوة قوية في التحدث عما اختار ، وتحمس لما يقول وما يعرض ، ولا يرضيه الا ان يحمس السمعون حماسته ويبتهجوا بما يقول ابتهاجه. وكان يقول ان الاستماع للحديث فن كفن الالقاء ، من الناس من يجيده ومنهم من لا يجيده، وانما يجيده السامع اذا تجاوب مع القائل في شعوره وعواطفه وانفعالاته، يضحك للحديث المضحك وبيكي للحديث الباكي وتظهر على اسارير وجهه كل هذه الاستجابات. وكان يعتقد في اني اجيد الاستماع فيتحدث الى باكثر مما يتحدث به مع غيري . وهذا الاخر هوايته التاريخ، يطيل القراءة فيه ويُفتن باسلوب الاوربيين في كتابته وقدرتهم على التحليل الدقيق ورجوع الجزئيات الى كلياتها وحريتهم في تقدير الابطال والاعتداد بشخصياتهم . فقد يهدم بعضهم بطلاً اجمع الناس على بطولته ، اويشيد بذكر مغمور اجمع الناس على خموله ، وينقد كتابة التاريخ عند العرب . فقد احسنوا في رواية الاحداث ولم يحسنوا فلسفتها الا ماكان من ابن خلدون فقد احسن في فلسفة التاريخ وقصر في تطبيقها على الاحداث ، ثم هو يحاول ان يطبق هذا المذهب فيعرض علينا من بحثه في عمر وعلي -مثلاً – على نمط جديد فيه التقدير وفيه النقد.
وهذا عالم تخصص في الكيمياء وجعل مسلاته الادب . فهو يقرأ في ديوان ابي الطيب وابي فراس ويتخير من شعرهما ويحفظه وينشده ، وتلتهب عاطفته فيحاول ان يقول شعراً بعضه لا باس به . وهذا عالم آخر كيمياوي ايضاً جل علمه ونفسه وكل ما يملكه من ملكات وثقافات لخدمة دينه . اثر في كثير من الطلبة في مدرسته العالية فدينهم ، وملا المسجد به وبهم ، قد حفظ القرآن واطال قرءته وبذل جهداً في فهمه ، فهو يفهمه كما يقول المفسرون ويزيد عليهم ما يفهمه من نظريات الطبيعين والكيمياويين وما يقتبسه من اقوال المتدينين من العلماء الاوروبيين . يحلو له الكلام في الدين وهداية الضالين ، ويعز عليه ان يسمع الحاداً او كلمة يشتم منها الحاد بل لا يسمح ان ينقد احد امراً من امور الدين ، ولو كان في التفاصيل . وهو في كل ذلك مخلص لا يقول كلمة بلسانه ينكرها قلبه ، قوي الحجة طويل النفس في المناظرة مؤثر اذا قال ، جزل الاسلوب اذا كتب ، يدرس الكيمياء والطبيعة فتكون ديناً ، يتحرج صحبه ان يذكروا امامه شيئاً يمس شعوره الديني وعاطفته المسلمة ، ويهابونه في طربوشه اكثر مما يهابونني في عمتي.
وهذا عالم في الرياضة ولكنه لا يقل ثقافة ادبية عن المختصين في الثقافة الادبية يقرأ في الاغاني والعقد الفريد كما اقرا ويتذوقها وينقدها ، ويقرأ الكتب الكثيرة في الثقافة العامة الانجليزية في الاخلاق والاجتماع وعلم النفس ، ويتاثر بما يقرأ الىحد كبير ، ويقتنع بما يقرأ ويتحمس له ، وياتي ويحدثنا بخلاصة ما قرأ وما فكر فيما قرأ ، وله اسلوب لطيف ساخر جامح في نقد ما يرى وما يسمع ، تطبيقاً لنظرياته التي اعتنقها من قراءاته ، ولابأس ان يغلو في الهدم ، ولا بأس ان يغلو اليوم في عكس ما غلا فيه بالامس ، وهذا وهذا مما يطول شرحه.
كل اولئك كانوا مدرسة لطيفة لي ، مدرسة خلت من عبوس الجد وثقل المدرس وسماجة تحديد الموضوع والزمان والمكان ، ونعمت بالبعد عن الامتحان وصداع الجرس ، مدرسة فيها الجد والفكاهة ، والعلم والادب ، والدين والشعر، والتقريظ والنقد ، مدرسة يكون فيها التلاميذ استاذاً والاستاذ تلميذاً ، وان شئت فقل ان كل من فيها استاذ تلميذ ، مدرسة فيها حرية القول وحرية السماع وحرية الموضوع وحرية كل شيء ، تقارب فيها سن الاساتذة والتلاميذ فتجانست مشاعرهم ، وتشابهت آمالهم ومطامحهم ، وتفتحت نفوسهم للاستفادة من تنوع مواهبهم .
وكان لهذه المدرسة التفاتة لطيفة الى تقويم البدن كتقويم النفس ، والعناية به كالعناية بالعقل . فما بالنا نقضي نهارنا في المدرسة ندرس، وعصرنا في القهوة نجلس جلسة الكسالى العجائز نتحدث ، وليلنا على الكتب نحضر ! اين الهواء الطلق ؟ اين جمال الطبيعة؟ اين الرياضة البدنية؟ اين الرحلات؟ ان كل هذه تجدد النفس وتنعش الروح وتبعد العجز ، وتخدم العقل كما تخدم الجسم ، وتغذي الروح كما تغذي البدن .
اذن – فلنشترك في ناد من نوادي الالعاب الرياضية ، ولننظم رحلات اسبوعية ، ولاحقق انا بعض ما كانت تقوله لي المدرسة الانجليزية "تذكر انك شاب".
وذهبنا الى نادي الالعاب الرياضية بالجزيرة واشتركنا فيه ، وكانت عمتي اول عمامة اشتركت في النادي ، وربما كانت آخرها ايضاً ، واخذت خزانة فيه ككل عضو ، اضع فيها "الفانيلا والشورت والجزمة الكاوتش" ، فاذا حضرت خلعت عمامتي وجبتي وقفطاني ولبست الشورت وما اليه وتسابقت في العدو مع العدائين ، ولعبت كرة القدم مع اللاعبين ، حتى اذا تعبنا جلسنا على الحشيش في الهواء الطلق نتحدث ونضحك . وقد كنت اول الامر الهث اذا جريت ، واخفق اذا لعبت ، ثم استقام امري ، وان لم ابلغ في خفة الحركة مبلغ صحبي ، لاني احمل من اوزار تربيتي الاولى ما لا يحملون . فاذا فرغنا من ذلك كله ذهبنا الى خزائننا وخلعت "الشورت" ولبست الجبة والقفطان والعمامة وخرجت من النادي شيخاً وقوراً .
ويوم الجمعة احياناً كنا نخرج الى رحلة في جبل المقطم في الشتاء ، فيوماً الى الغابة المتحجرة ، ويوماً الى وادي دجلة او وادي حوف في حلوان ، ويوماً الى العين الساخنة وهكذا. وكانت رحلات قاسية وقائدنا فيها عنيف لا يرحم ، وكم قلت له : "رفقاً بالقوارير" وهو لا يسمع ! فكنا نمشي في الوديان ونتسلق الجبال من طلوع الشمس الى غروبها ، نحمل معنا غذائنا وشربنا على ظهورنا ونسير سيراً حثيثاُ لا نستريح الا ساعة ناخذ فيها غذاءنا ثم نسير سيرنا واعود الى البيت مضنى متعباً ، ثم انام ملء جفوني ، واعرج بعدها في مشيي ثلاثة ايام او اربعة ، ولكني احس صفاء نفسي وصفاء راسي . وكنت في هذه الرحلات كشاني في الالعاب ، اخيب عضواً في الاولى وابطا عضو في الثانية : لست انسى يوماً عصيباً ذهبت فيه مع صحبي الى وادي حوف فلما بدأنا في العودة تخرق نعل جزمتي فسددتها بورق مقوى كنا احضرنا فيه بعض الفطائر والحلوى ، فلم يفد ذلك الا قليلاً، ثم برزت رجلي وسرت على الحصى ، ودميت اصابعي ، وابطا القوم في سيرهم ورثوا لحالي ، واخيراً جداً عثرت على حمار قبل مدخل حلوان ، وطلبت من صاحبه ان يحملني الى المحطة باي اجر شاء ، ودخلت حلوان على حمار وحولي الحواريون يمتزج شعورهم نحوي بالضحك مني والرثاء لي .
وتحررت بعض الشيء ، فكنا نذهب احياناً الى صالة "منيرة المهدية" لسماع غنائها ومشاهدة رواياتها ، وكنت اتاثر من بعض نغماتها اثراً يرن في اذني طول الاسبوع .
فاذا احب بعضهم ان يذهبوا الى اكثر من ذلك تواصوا فيما بينهم الا يخبروني ، لاني لا اصلح لمثل موقفهم .
وانضم الى جماعتنا ثلاثة من نوابغ خريجي مدرسة الحقوق كانت لهم ثقافتهم القانونية والسياسية ، ودب في الجماعة روح التفكير القومي: فهذا البلد ضعيف مسكين متاخر في جميع مرافقه ، ونحن الشباب يجب ان نفكر ونعمل في تقدمه واعلاء شانه رغم الاحتلال وسيطرته . فلنؤلف لجاناً لدراسة مصر من نواحيها الختلفة : لجنة للناحية الاقتصادية ، واخرى للناحية السياسية ولجنة للتربية والتعليم، ولتفعل كل لجنة فعل الطبيب يشخص المرض ويصف العلاج ، وفعلت اللجان ذلك وبدات الجماعة تعمل ، لكن عصفت الرياح باللجان كلها، وبقيت – بحمد الله – "لجنة لتاليف والترجمة والنشر"- التي سن قانونها احد الاعضاء القانونيين ، وقُريء على الاعضاء مجتمعين ، وعُدل ونُقح ، والتزم كل عضو ان يدفع عشرة قروش في كل شهر ، وان يجتمع مجلس ادارتها في بيت عضو من اعضائها، وبدأ بعض الاعضاء العلميين يؤلف كتباً في الكيمياء لطلبة المدارس الثانوية ، يحضر كل باباً ويقرؤه على الاخرين فينقحونه ويهذبونه ، فاذا فرغوا منه قدموه للطبع. فاذا لم يكف ما جمع من عشرات القروش اقرض اللجنة بعض الاغنياء من الاعضاء ليتم طبع الكتاب ، فكان هذا اول حجر في بناء اللجنة .
وقد تكونت اللجنة على هذا المنوال سنة 1914 ، ونحن الان في سنة 1953 فيكون قد مضى عليها اكثر من ست وثلاثين سنة ، وقد طبعت من الكتب اكثر من مائتي كتاب ، وكانت لا تقرركتاباً الا اذا حولته على اثنين خبيرين بالموضوع يبديان فيه راياً بالصلاحية او عدمها ، او حاجته الى التعديل . ولبثت طول هذه المدة رئيساً للجنة يعاد انتخابي فيها رئيساً لها كل عام . وازداد عدد اعضائها الى حتى شبهها الناس بالماسونية . وكل عضو فيها يشجع اللجنة بما يقدر عليه ، واسست لها مطبعة خاصة ، كما اسست مجلة اسمها الثقافة تنشر فيها الاراء على مبادئها واستمرت نحو اربعة عشر عاماً ثم اوقفتها هذا العام سنة 1953 لما تتكبد فيها من خسائر . وقد حزن الاعضاء والقارئون على وقوقها ، ولكن لماذا يجدي الحزن العاطفي امام الخسائر الفادحة؟
ونمت مالية اللجنة من هذه العشرات من القروش ومن الارباح من الكتب حتى بلغت اكثر من ستين الفاً من الجنيهات. وشغلت هذه اللجنة جزءاً كبيراً من حياتي . فكنت اذهب اليها كل يوم ادير شؤونها واطلع على مشاكلها : واقرا بريدها واؤشر على ما يلزم في هذا البريد . وقد كانت اللجنة تسكن اولاً في بيت عضو من اعضائها، ثم استاجرت مكاناً متواضعاً في حي بلدي . ثم اشترت بيتاً في جي ارستقراطي بنحو 20 الف جنيه . واخيراً وبعد ان وقفت على رجليها منحتها الحكومة مبلغاً من المال يقرب من تسعمائة جنيه كل سنة ، افردناه في دفاتر خاصة وطبعنا به كتباً خاصة ، نبيعها بتكاليفها تقريباً ، وتحاسبنا الوزارة على هذا البند وحده. وعلى الجملة كانت هذه اللجنة مشغلة لي ، اسال عنها ، واحاسب نفسي عنها كما احاسبها على اولادي ، واستعين باعضاء مجلس ادارتها الكرام على تنظيم شؤونها ، وترتيب امورها ، واحمد الله على التوفيق فيها .
على كل حال كانت هذه اللجنة نتيجة لصداقة هؤلاء الاصحاب الذين ذكرت بعض صفاتهم ، وحظيت بصداقتهم. وبهؤلاء الصحاب احسست اني اقرب من عقليتهم ومزاجهم وثقافتهم شيئاً فشيئاً ،وابتعد عن عقلية زملائي الاقدمين ومزاجهم شيئاً فشيئاً ، ورايتني اكون لنفسي نواة من الكتب الانجليزية بجانب الكتب العربية ، واحضر دروسي منها في الاخلاق والمنطق ، واملا الفراغ بالمطالعة في هذه وتلك، واذا العين تتفتح والافق يتسع.
-20-
…..وفي هذا العهد كثر الحديث في مجالسنا عن الزواج والازواج والزوجات وسعادة الزوجية وشقائها وضرورتها او الاستغناء عنها والزواج بالاجنبيات والمصريات ، ورويت الاحاديث المختلفة عن فلان المتزوج الذي سعد في زواجه وفلان المتزوج الذي شقي بزواجه، وفلان الذي اضرب عن الزواج واستمتع بالجياة في اولها وشقي في اخرها وهكذا. وجال الموضوع في ذهني في قوة ووجدتني قد بلغت التاسعة العشرين . فصممت ان ابت في الموضوع هل اتزوج او لا اتزوج ، واخيراً وبعد تردد طويل قررت ان اتزوج ، ولكن نشات العقدة الثانية : من اتزوج ؟ وكان السفور في هذا الزمن في اول امره لم يجرؤ عليه الا عدد محدود من المثقفات. فكان الزواج غالباً يخضع للتقاليد القديمة ، يسمع الشاب من صديقه او احد اقاربه ان لفلان بنتاً في سن الزواج ، وقد يبلغه هذا الخبر من محترفة لهذه الوظيفة وهي التي تسمى الخاطبة وهي امرأة تزور البيوت وتتعرف اخبارها وترى من فيها من الشابات في سن الزواج او من الشباب الذين يريدون الزواج ، وتكون واسطة بين اهل الزوج واهل الزوجة في تعريف هؤلاء باولئك ، فيتقدم احد اقارب الشاب الى ابي الشابة او ولي امرها يعرض عليه الرغبة فاذا قبل ارسل الشاب امه وبعض قريباته من النساء لرؤية الفتاة ، فاذا وصفوها وصفاً اقتنع به تقدم للزواج من غير ان ينظرها ويعرف شكلها وطباعها واخلاقها .وانما يعرف ذلك كله بعد عقد العقد وبعد الزفاف.
وهكذا كان الزواج في عهدي في مثل طبقتي . وكنت شاباً لا باس بشكله ولا باس باسرته ، فانا وبيتي نعد من الاوساط وانا احمل شهادة عالية ، ومرتبي نحو ثلاثة عشر جنيهاً وهو مرتب لا يستهان به في ذلك العصر ، وكنت اتلمس الزواج من امثالي في الاوساط، لا اطلب الغنى ولا اطلب الجاه . ومع ذلك كله وقفت العمامة حجر عثرة في طريقي. فكم تقدمت الى بيوت رضوا عن شبابي ورضوا عن شهادتي ورضوا عن مرتبي ، ولكن لم يرضوا عن عمامتي، فذو العمامة في نظرهم رجل متدين ، والتدين في نظرهم يوحي بالتزمت وقلة التمدن والالتصاق بالرجعية والحرص على المال ونحو ذلك من معان منفرة ، والفتاة يسرها الشاب المتمدن اللبق المساير للدنيا اللاهي الضاحك ، فكم قيل لي ان ليس عندهم مكان لعمامة ، ورضي بي قوم اولا واحبوا ان يروني ، فاحببت ان اريهم اني متمدن ، وذهبت اليهم احمل كتاباً انجليزياً وجلست اليهم وجلسوا الي وتحدثت اليهم حديثاً عصرياً على آخر طراز وحشرت في كلامي بعض كلمات انجليزية فاستغربوا لذلك ، وفهمت انهم اعجبوا بي ورضوا عني، ولكن بلغني ان الفتاة اطلت على من الشباك وانا خارج ورات العمامة والجبة والقفطان فرعبت ورفضت رفضاً باتاً ان تتزوجني رغم الحاح اهلها. وشاء القدر ان تتزوج هذه الفتاة فيما بلغني شاباً انيقاً كاتباً في وزارة ولكنه سكير معربد اذاقها المرار في حياتها الزوجية ثم طلقها ، وما زال يسوء حالها حتى تزوجت بعامل في التلغراف وجاءت الى وانا قاض في محكمة الازبكية تطلب من زوجها النفقة.
وهكذا لقيت العناء في الزواج . فكلما دلني صديق على فتاة فاما ان اجد مانعاً منها او تجد مانعاً مني. فمن ارضاه لا يرضاني ومن يرضاني لا ارضاه. واخيراً دلني مدرس معي في مدرسة القضاء على بيت رضيني ورضيته . فارسلت امي واختى وزوجة الاستاذ لرؤية الفتاة فراينها ووافقن عليها ، وجعلت اسال امي واختى اسئلة عن شكلها وملامح وجهها وطولها وعرضها وفراستهما في اخلاقها ونحو ذلك ، واستمع لاجابات لا تصور شكلا ولا توضح حقيقة ، واجلس الى نفسي واعمل خيالي فيما سمعت ، فاصوغ من ذلك شكلاً. وقد اجلس معهما مرة اخرى اسمع منها جديثاً آخر ووصفاً آخر، فاتخيل من ذلك صورة اخرى وهكذا. واخيراً سلمت الامر لله وتركت التصوير حتى ترى العين ما رسم الخيال . وتم عقد الزواج يوم 3 ابريل سنة 1916 ، وقد اخذت يوم العقد مائة جنيه انجليزي ذهباً في علبة جميلة قدمتها مهراً للزوجة ، وانتظرت نحو اربعة اشهر حتى يتم اهل الزوجة الجهاز .
وكانت هذه الاشهر الاربعة مجال تفكير في السعادة المرجوة والاحلام اللذيذة ، بناء القصور على الاراء الفلسفية او النظريات المدونة في الكتب . فانا ازور المكتبة الانجليزية وابحث عما كتب في الزواج ، فاعثر – مثلا – على سلسلة من الكتب احدها فيما ينبغي للزوج ان يعلم ، وثانيها فيما ينبغي للزوجة ان تعلم وهكذا . ثم اجد كتاباً في الزواج السعيد وآخر في الاسرة ، وثالثاً في تربية الطفل فأقرؤها وافكر فيها استخلص منها ما يجب ان اعمل لاسعد وعلى أي الاسس ابني اسرتي وهكذا.
وقد ذهبت بعيد الزواج الى مصور ماهر صورني صورة تذكارية احتفظت بها ، ووجدتني قد كتبت على ظهرها العبارات الاتية: "هذه صورتي اخذت يوم الجمعة 7 ابريل سنة 1916 وسني تسع وعشرون سنة وستة اشهر ، عقب عقد زواجي باربعة ايام ، وقد اتخذت الكتب شعاراً لي في الصورة ، فوضع المصور امامي كتباً من عنده وامسكت بيدي اليسرى كتاب "مباديء الفلسفة" وكنت قد عربت اكثره واوشكت على الانتهاء . وقد لاحظت ان اصور صورة في غاية البساطة فلم اتعمل شيئاً الا اختيار الثوب الذي اخترته يوم عقد الزواج . وربما كان الباعث لي على هذا التصوير ما اشعر به من اني قادم على حياة جديدة ومرحلة جديدة ، فقد انهيت حياة الوحدة وساقدم على حياة الاسرة ، وانا مقتناع ان هذه البيئة الجديدة سيكون لها اثر كبير في نفسي وجسمي وعقلي. . ومن البواعث على هذا التصوير ايضاً علمي ان السنة المتممة للثلاثين تختم حياة الصبا والفتوة وتفتح حياة يغلب عليها العقل والروية ، على اني – والاسف يملأ فؤادي-لم انتفع بزمن الصبا والفتوة كما كان يجب . فلم يجد المرح والنشاط واللهو-ولو كان بريئاً- ولا الحب الى قلبي منفذاً، بل تشايحت منذ الصبا – وهذا ولا شك اثر التربية المنزلية . فقد كانت تربية اساسها التخويف والارهاب ، ولم يكن في بيتي أي مظهر من مظاهر البهجة والسرور. واني في هذه السنة احس شيئاً من النشاط على اثر دروسي الانجليزية مع مدرسة كانت تصلح من نفسي كما تصلح من لساني، وكانت تنتقد في الهدوء والسكينة. ومما احسه ايضاً انني اكثر حرية في الفكر واكثر نقداً لما يعرض لي ، واكثر ميلي هذه السنة الى القراءة في علمي الاخلاق والاجتماع مع ما اجد من الصعوبة في فهم ما اقرأ، لقرب عهدي بتعلم الانجليزية. فقد بدأت تعلمها في يناير سنة 1914 فلي الان نحو سنتين ونصف سنة وهي مدة لم تكف في التبحر فيها .
وليس لي تعليق على ما كتبته خلف الصورة الا على قولي "ان الحب لم يجد الى قلبي منفذاً" فهو تعبير غير دقيق وقول لا يصدق الا على رجل جامد العواطف . بل كانت عواطفي اقرب الى ان تكون حادة وخاصة في ايام الشباب الاولى ظهرت حدتها في العاطفة الدينية فقد كانت مشبوبة حادة ، وفي حبي لاصدقائي. فقد كنت آنس بقربهم وآلم لبعدهم ، وفي عاطفة الرحمة والشفقة على الفقراء والبائسين ونحو ذلك من مظهر للعواطف ، بل لقد تحركت في عاطفة الحب منذ الصبا . فقد احببت وانا في نحو الخامسة عشرة ابنة جار لنا والتهبت عاطفتي فأرقت كثيراً وبكيت طويلاً . وكل ما كان من وصال ان اجلس انا وهي على كرسيين امام دارها نتحدث في غير الغرام ، فلما وسوس الشيطان لابيها حجبها عني وشقيت زمناً بذلك ثم سلوت ، ثم احببت المدرسة الانجليزية الشابة حباً ضنيت به ولم تشعر به. وكل ما سعدت به ساعات الدرس اتحدث اليها وتتحدث الي وتنظر الي يعينيها الصافيتين . ولكنه كان حباً يائساً ، فهي متزوجة مخلصة لزوجها سعيدة بزواجها. فعاطفة الحب كانت في اعماق نفسي ولكنها مكبوتة، حال دون ظهورها وسطي . فالفتاة لم تكن سافرة سفور اليوم ، وكان الشاب لا يعرف من الفتيات الا اقاربه ، وكانت تربيتي الدينية تعد الحب فجوراً والنظر الى الفتاة وحديثها اغواء شيطانياً ، ومدرستي كبيتي متزمتة متعنتة ، لا ترتاح لان يجلس طالب في قهوة ، وتعاقب من وجد في صالة غناء. وحدث مرة ان شوهد متخرج حديثاً من المدرسة يجلس في مقهى بالازبكية مع صاحبيه من غير المدرسة وامامهم كاسات من البيرة. فكان من سوء الحظ ان مر عليهم عاطف بك وراي هذا المنظر ، ومع انه لم يتحقق من شرب هذا الشاب البيرة فقد حرمه من تولي القضاء سنين ، ورفض كل رجاء في العفو عنه ، ولم يعين بعد الا بضغط عليه شديد او رغماً عنه .
كل هذا لم يهبني مجالاً للحب ، بل كبته في اعماق نفسي الى ان تزوجت.
وبعد العذاب في اختيار الزوجة وعقد العقد واعداد الجهاز اخترت بيتاً اسكن فيه وحدي مع زوجي قريباً من بيت اهلي ، وحرصت على ذلك حتى اتجنب الاقوال الشائعة والحكايات التي لا تنتهي في النزاع بين الزوجة والام ، وكذلك تمت هذه المرحلة.
-21-
تزوجت وكان كل اعتمادي في الزواج – كما ذكرت – على الخيال لا على الواقع . الخيال هو الذي رسم صورة زوجتي واخلاقها وصفاتها معتمداً في رسمه على احاديث النساء اللاتي شاهدنها ، والخيال هو الذي رسم صورة لحياتي المستقبلية اعتماداً على ما سمعته من احاديث عمن سعدوا في زواجهم ومن شقوا ، واسباب سعادتهم واسباب شقائهم ، واعتماداً على ما قراته في الكتب الانجليزية عن الحياة الزوجية.
ولكن شتان بين الواقع والخيال ، فالخيال يرسم الصورة وهو حر طليق محلق في السماء ، والواقع يلتصق بلالرض ويتقيد بالظروف والبيئة والممكان والزمان وغير ذلك . وقد اذكرني الفرق بين الواقع والخيال بحادث حدث لصديق لي سافرت معه الى الاسكندرية لنستجم من متاعبنا ، وكنت اعرف العوم ولم يكن يعرفه ، فغاظه ذلك وصمم على ان يتعلم العوم ، فغاظه ذلك وصمم على ان يتعلم العوم ، وصادف ان مر امام مكتبة انجليزية فرأى في ظاهرها كتاباً في العوم فاشتراه – وكان قوياً في اللغة الانجليزية فسهر عليه ليلة حتى اتمه قراءة وفهماً وعرف منه تمام المعرفة نظرية العوم وكيفيته وطرقه ، وايقن انه بذلك يستطيع ان يغالب اكبر عوام ، وحدثني بذلك في الصباح فضحكت من حديثه. فلما ذهبنا الى حمام البحر تبخرت كل نظرياته وعلمه ، ووضع "قرعتين" على ظهره، وامسك بالحيل الممدود ، وطمأن رجليه على الرمل، ولكن سرعان ما اصفر وجهه واضطرب جسمه وخاف ان يفارق الجيل وفقاً لنظريات الكتاب.
قابلت زوجي فكنت كمن يفض حلاوة البخت او كمشتري ورقة اليانصيب حين يقرأ جدول النمر الرابحة ، وحمدت الله على ما وهب ، وبقى ان اعرف صفاتها التي تظهر يوماً فيوماً كلما حدثت مناسبة او جد جديد.
لقد عشنا زمناً عيشة هادئة فيها لذة الاستكشاف : اتكشف اخلاقها وتصرفاتها وتتكشف اخلاقي وتصرفاتي ، وفيها لذة تحقيق الشخصية فقد لبثت طويلاً في كنف ابوي ، وانا الان رئيس البيت حر التصرف الى اخر ما هنالك.
ولكن صدم زوجي بعد قليل ان رأتني هادئاً غير مرح ، قليل الكلام ، وقد تربت في بيت مرح ، مملوء بالضحك والبهجة ، يكثر فيه الحديث في الفارغ والملآن ، فظنت اني لا اقدرها او نادم على الزواج بها . واؤكد لها ان هذا طبعي كسبته في بيتي فلم تصدق ولم تطمئن الا بعد طول العشرة ووثوقها من اني كذلك مع غيرها لا معها وحدها.
ومشكلة اخرى عرضت لها ولي ، وهي اني رجل مدرس مضطر الى تحضير دروسي في المساء لالقيها في الصباح ، وفوق ذلك اني احب القراءة في غير دروسي ايضاً ، فانا فرح بتعلمي الانجليزية مشغول اول عهدي بالزواج بانهاء ترجمة كتاب “مباديء الفلسفة” ، وزوجتي مثقفة ثقافة محدودة ، تقرأ القصص والروايات الخفيفة من غير شغف، فهي تحتمل الصباح وحدها لاعداد ما نأكل وتنظيف ما ينظف ، ولكن كيف تحتمل المساء ايضاً وحدها وانا في غرفة بجانبها اقرأ واكتب والايام هي الايام الاولى لزواجنا ؟ وحدث مرة ان اعدت العشاء وفتحت على الباب واخبرتني بان العشاء معد. وكنت امام جملة في مباديء الفلسفة صعبة ، احاول ترجمتها واحاور عبارتها واتذوق صياغتها ، فلم اسمع النداء والاخبار ، ولم اشعر بفتح الباب ، فكان خصام وكان نزاع وكانت شكوى الى اهلها لم تنته الا بعناء. ولم استطع التحول عن طبعي وغرامي . ثم حلت المشكلة بعض الشيء بالولد الاول واشتغال امه به ثم بما تتابع من اولاد ، ثم باضطرارها الى قبول الامر الواقع والرضا بما قدر الله من عيش في شبه عزلة بما اقرأ واكتب.
وكانت نظريتي في الاولاد تخالف نظريتها ، فكان من رأيي الاقتصار على ولد او ولدين ، شعوراً بمسئولية التربية وتوفيراً للزمن الذي احتاجه في التحصيل والدرس ، وتمشياً مع النظرة التي أراها وهي ان الامة المصرية مكتظة بالسكان وان كثرتهم تحول دون العناية بتغذيتهم تغذية صحيحة ، فلو قل عدد الاسرة كانت اقدر على ان ترفع مستواها في امور الاقتصاد والتربية ، ولكن زوجتي لا ترى هذا الرأي ، وقد نصحتها بعض قريباتها بالمثل المشهور وهو "قصيه لئلا يطير" فالطائر اذا نزع ريشه او قص لا يطير ، والزوج اذا خف حمله لقلة الاولاد كان عرضة ان يطير ويتزوج ثانية وثالثة ، وقد غلبت نظريتها نظريتي، ولم تعبأ بالمتاعب التي كانت تلاقيها في الولادة والتربية ، فرزقت بعشرة اولاد -ولله الحمد- مات منهما اثنان في طفولتهما ، وبقى لي ثمانية اسال الله ان يمد في عمرهم ويسعدني بهم ، ستة ابناء وبنتان ، واني لاعجب لنفسي وعجب لي غيري كيف استطعت ان اؤلف ما الفت واكتب ما كتبت واقرأ ما قرأت مع ما تتطلبه تربية الاولاد من جهود لا نهاية لها ، ويرجع الفضل في ذلك الى الام وحملها عني الاعباء التي تستطيع القيام بها ، واكتفائي بالاشراف على تربيتهم العلمية والخلقية، ثم تقصيري في اطالة الجلوس معهم ومسامرتهم واطالة عزلتي على مكتبي .
على كل حال بعد ان عرفت زوجي اخلاقي وعرفت اخلاقها وتكشفت لها ميولي وتكشفت لي ميولها ، حدثت المصالحة والتفاهم فتنازلت عن بعض رغباتها لرغباتي ، وتنازلت عن بعض رغباتي لرغباتها ، فكانت عيشة هادئة سعيدة نرعى فيها اكثر ما نرعى مصلحة الاولاد وخلق الجو الصالح لتربيتهم .
واحياناً كان يعكر صفونا شيئان لعله لم يخل بيت منهما الا في القليل النادر .
احدهما مسألة الخدم ، فالبيت لا سيغني عنهم ولا يرتاح بهم ، وكانت مشكلتهم عندنا مزمنة وخاصة في الخادمات . فزوجي غضوب ، تريد ان تنفذ جميع اوامرها في دقة ، والحادمة لا تعمل او لا تستطيع او تعاند فيكون الغضب ، او تريد ان تعاملها معاملة السيد للعبد ، تابى هي الا ان تعامل معاملة الند للند ، او تريد زوجي ان تكون الخادمة نظيفة والخادمة قذرة ، او مرتبة منظمة وهي لا تفهم ترتيباً ولا نظاماً ، وهكذا . كثيراً ما يكون للزوجة الحق وكثيراً ما يكون للخادمة الحق ، فاذا تدخلت انقلب مركز النزاع من الخادمة الي . وزوجي غيور ، فهي لا تحب بطبيعتها ان يكون للخادمة اية مسحة من جمال ، فان كانت كذلك فالويل لها ، والحديث يطول بيننا حول خادمة خرجت وخادمة جاءت وحادمة اساءت وحادمة سرقت . واخيراً قررت اخلاء يدي من الخادمين والخادمات ، وتركت لها مطلق الحرية ان تخرج من تشاء وتدخل من تشاء على شرط الاتذكر لي شيئاً من اخبارهم واحوالهم .
والثاني مشكلة وسائل التفاهم ، فقد كنت من غفلتي اعتقد ان العقل هو وحده الوسيلة الطبعية للتفاهم ، فان حدثت مشكلة احتكمنا اليه وادلى كل منا بحججه فاما اقتنع واما اقنع واما اصر ، واما اعدل ، ولكني بعد تجارب طويلة رايت ان العقل اسخف وسيلة للتفاهم مع اكثر من رايت من السيدات، فانت تتكلم في الشرق وهن يتكلمن في الغرب ، وانت تتكلم في السماء فيتكلمن في الارض ، وانت تاتي بالحجج التي تعتقد انها تقنع أي معاند ، وتلزم أي مخاصم ، فاذا هي ولا قيمة لها عندهن . تقول : ان الاوفق ان تتصرف في هذا الامر بكذا لكذا من الاسباب ، فترد عليك باقوال متاثرة بعواطف ساذجة . وتقول : هذا التصرف لا يصلح لما يترتب عليه من اضرار تعينها . فترد عليك بان العرف والعادة غير ذلك . وتعاقب ابنك لتؤدبه فتفسد العقوبة بتدخلها لمجرد العطف الكاذب . وتتصرف التصرفات الحكيمة فتؤولها بنظراتها العاطفية تاويلات غريبة . وهكذا ادركت ان من الواجب الا التزم المنطق ، واني اذا اردت الراحة والهدوء فلاضح بالمنطق احياناً ، واتكلم الكلمة السخيفة اذا كان فيها الرضا، والعب بالعواطف رغم المنطق اذا اردت السلامة .
وهكذا كانت حياتنا كالبحر الهاديء ، ولكن من حين لآخر تثور مشكلة من هذه المشاكل فيتكهرب الجو ويموج البحر ثم تنتهي العاصفة ويعود الى البحر هدوؤه .
ولم تكن لنا مشكلة مالية مما تشقى به تعض العائلات ، فقد وسع الله علي في الرزق ، ولم يأت على يوم اقتصرت فيه على مرتبي الحكومي . فعند تخرجي من مدرسة القضاء انتدبت مدرساً للاخلاق بمدارس الاوقاف الملكية بمرتب آخر ، ولما عينت قاضياً انتدبت مدرساً بمدرسة القضاء ، ثم در على الرزق بما اربح من كتبي ومقالاتي . فمع ما يتطلبه الاولاد الكثيرون من نفقات لم اشعر بحاجتي الى الاستدانة ولا مرة ، والى جانب ذلك فانا رجل ليس لي كيف من الكيوف الا الدخان ، ثم معتدل في الانفاق ، وانا اميل الى التبذير وزوجتي اميل الى التدبير ، ولو ترك الامر لي ما ابقيت على شيء ، ولكن زوجتي لكثرة الاولاد ، وما يتطلبه ذلك من حساب المستقبل ، احتاطت ودبرت وادخرت .
وكذلك حمانا الله من مشاكل اخرى اصيبت بها بعض الاسر لا داعي لذكرها لانها لم تدخل في تجاربنا .
ورزقت بالولد الاول عقب زواجي ، فاوليته كل عنايتي وطالعت من اجله بعض الكتب الانجليزية والعربية في تربية الطفل ، وكنت اشتري له اللعب الاجنبية الموضوعة للتسلية وتربية العقل ، ولم ارتض له المدارس المصرية ،ـ فعلمته في المدارس الفرنسية – في الفرير – ثم حولته بعد السنة الثالثة الثانوية الى مدرسة مصرية ليتقوى في اللغة العربية والانجليزية ، فلما نجح في البكالوريا ، كان ترتيبه متقدماً يسمح له ان يكون في الطب او الهندسة ، اختار الهندسة .
وعنيت بالولد الاول اكبر عناية ، علماً بانه سيكون نموذجاً لاخوته .
وقد كنت قاسياً على اولادي الاولين ، شديد المراقبة لهم في دروسهم واخلاقهم ، اعاقبهم على انحرافهم ولو قليلاً ، ولا اسمح لهم بالحرية الا في حدرد ، جسب عقليتي اذ ذاك ، ولكنها على كل حال قسوة لا تقاس بجانب قسوة ابي علي، وكلما تقدمت بي السن واتسع تفكيري اقللت من تدخلي واكثرت من القدر الذي يستمتعون فيه بحريتهم ، فلم اجد كبير فرق بين الاولين والاخرين لشدة تاثر من لحق بمن سبق .
وما اكثر ما لقيت من متاعب الاولاد في صحتهم وفي دراستهم وفي سلوكهم وكان لكل سن متاعبها . فاكثر متاعب الطفولة في الصحة والمرض، واكثر متاعب المراهقة في الدراسة والسلوك، واكثر متاعب الشباب في طرق الوقاية والمهارة في الاشراف من بعيد . وكثيراً ما كان عندي الاسنان كلها احمل متاعبها المتنوعة جميعها . واحمد الله فقد نجحت في تحمل اعبائهم ، وحسن توجيههم الى حد كبير. فالان وانا اكتب هذا زوجت بنتي زوجاً يعد بقدر الامكان سعيداً ، واتم ثلاثة درسة الهندسة والرابع في طريق اتمامها ، ولما ضقت ذرعاً بالهندسة وكرهت سماع النغمة الواحدة تدخلت في الامر بعد ان كنت اترك لهم الاختيار ـ فوجهت الخامس لدرسة الحقوق ، وحاولت ان اوجه السادس للطب وقد كان اول البكالوريا في القطر فلم افلح .
وكان حنوي وحنو امهم عليهم بالغ الحد، حتى لكثيراً ما ضحينا بسعادتنا لسعادتهم ، وتعبنا لراحتهم ، وانفقنا من صحتنا محافظة على صحتهم ، ونحن نطمع ان يتولى الله وحده الجزاء . اما هم فقد يحاسبوننا على الكلمة الصغيرة يظنون انها تجرح احساسهم ، وعلى التقصير القليل يظنونه مساً بحقوقهم ، وعلى العمل يسيئون تفسيره ، وقد يكون الغرض منه خيرهم ، ولكن الموقف النبيل يقضي بان تربية الاولاد ليست تجارة ، تعطي لتاخذ وتبيع لتربح ، انما هي واجب يؤديه الاباء لابنائهم وامتهم ، فان قدره الابناء فادوا واجبهم نحو ابائهم فيها ، والا فقد فعل الاباء ما عليهم ، والمكافيء الله.
نعم رزقت الحنو عليهم حنواً شديداً حتى لينغص على سفري اذا سافرت ورحلاتي اذا رحلت فلا ازال اذكرهم في سفري حتى اعود ، ولا تهنأ لي راحة الا اذا عدت اليهم ، واخواني المسافرون معي يستنكرون ذلك مني ، ولا اراهم يحنون الى اولادهم حنيني.
-31-
تركت العمادة وعدت استاذاً وخلت يدي ممن كل سلطة ادارية ، واتت وزارة لا تعدني من رجالها ، فلم يكن لي شأن في علاوات وترقيات ، وليس في قبول في شفاعات ، وأذ ذاك سفرت لي وجوه قبيحة من أنكار الجميل وقلة الوفاء .
هذا كان صديقي يوم كنت استطيع نفعه ، فلما سلبت مني هذه القدرة تلمس الوسائل ليكون عدوي، فان لم يجد اسباباً اختلقها ، وان لم يجد فرصة لاظهار هذه الخصومة تعمد ايجادها ، وهؤلاء الذين كانوا يتهافتون على اقامة حفلات تكريم لي يوم انتخبت عميداً ، فارفضها وارفضها ، لم يفكروا في اقامة حفلة وداع يوم تركت العمادة .
وهذه التليفونات التي كانت تدق كل حين للسؤال عن صحتي ، وطلب موعد لزيارتي ، لاظهار الشوق اولاً ، والاطمئنان على صحتي ثانياً ،والرجاء في قضاء مسألة ثالثاً ، لم تعد تدق الا للاعمال الضرورية التي ليس منها سؤال عن صحة ، ولا اعلان اشواق .
وهذا صندوق البريد الذي كان يمتليء بالخطابات المملوءة بالطلبات والرجاوات اصبح فارغاً الا من خطابات عائلية او مسائل مصلحية.
وهذه ايام الاعياد التي كان يموج فيها البيت بالزائرين من الصباح الى المساء يهنئون بالعيد ، اصبحت كسائر الايام ، اجلس فيها على المكتب فاقرأ واكتب ، ولا وسائل ولا مجيب .
وهذه صورة للناس لم تكن جديدة علي، فقد قرأت مثلها في الكتب كثيراً ،وسمعت في الاحاديث كثيراً ، وشاهدتها في غيري كثيراً ، ولكن لعل أسوأها في نفسي ما شاهدته من قلة الوفاء في بعض طلبتي ، فقد كنت اعتقد ان الرابطة العلمية فوق كل الروابط ، وان حق الاستاذية فوق كل الحقوق . أما ان طالباً يخرج على استاذه ويخاصمه ، ويقدح فيه بالكذب والاباطيل فشيء لم اكن رايته ، فلما رايته استعظمته ، وحز في نفسي وبلغ اثره اعماق قلبي ، لم اعد بعد ذلك اثق بالناس كما كنت اثق ، ولا اركن اليهم كما كنت اركن ، فكانت اذا حدثت فصول من هذا القبيل تكسرت النصال على النصال :
وصرت اشك فيمن اصطفيه لعلمي انه بعض الانام
وعدت الى الكتاب فهو أوفى وفي وخير صديق .
هاأنا اعود الى كتبي ومكتبتي ، وابدأ في اعداد الجزء الاول من ظهر الاسلام ، والاشتراك في نشر كتاب الامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي ، واضع – مع الاستاذ زكي نجيب – خطة في وضع كتاب قصة الفلسفة اليونانية ، ثم قصة الفلسفة الحديثة في جزأين ، ثم قصة الادب في العالم في أربعة اجزاء ، وأشارك في تأليفها وأنجازها ، وأجد بعد ذلك من الفراغ ما يمكنني من الاشتراك وأشارك في تأليفها وانجازها ، وأجد بعد ذلك من الفراغ ما يمكنني من الاشتراك في المجالس العلمية والاشراف على اعمال لجنة التأليف والترجمة والنشر ونحو ذلك – حياة علمية هادئة لذيذة ، لا خصومة فيها ولا رجاء فيها ولا أخذ ولا رد فيها . وهذا هو ما يتفق ومزاجي ، فانا لا احب الجاه بالقدر الذي يجعلني اتحمل متاعب المنصب الاداري وما فيه من ضياع وقت واضطراب بال .
وقد كان بجانب عملي العلمي في البحث والتأليف والنشر ان اتجهت اتجاهاً ادبياً كان امتداداً لما بدأت به من الايام الاولى من حياتي يوم اشتركت في تحرير جريدة السفور . في سنة 1933 فكر الاستاذ احمد حسن الزيات في ان يشترك مع بعض اصدقائه في لجنة التاليف في اخراج مجلة الرسالة ، وكنت احدهم ، فكنت اكتب في كل اسبوع تقريباً مقالة ، وكان هذا عملاً ادبياً يلذ نفسي بجانب بحثي العلمي ، فأنا كل أٍسبوع أفكر في موضوع مقال وأحرره ، واضطرني ذلك الى قراءة كثير من الكتب الانجليزية استعرض فيها ما يكتب وكيف يكتب ، واعتمد اكثر ما اعتمد على وحي قلبي او اعمال عقلي او ترجمة مشاعري ، وكانت مقالاتي تتوزعها هذه العوامل الثلاثة.
واكثر ما اتجهت في هذه المقالات الى نوع من الادب تغلب عليه الصبغة الاجتماعية والنزعة الاصلاحثة ، فهذا اقرب انواع الادب الى نفسي واصدقها في التعبير عني . وخير الادب ما كان صادقاً يعبر عما في النفس من غير تقليد ، ويترجم عما جربه الكاتب في الحياة من غير تلفيق . ولقد اطماننت الى هذا النوع من الكتابة ، اذ كان يفتح عيني للملاحظة والتجربة ، ويسري عن نفسي بالافراج عما اختزنته من حرارة . فكنت اشعر بعد كتابة المقالة كما يشعر المحزون دمعت عينه او المسرور ضحكت سنه . وكنت احس كان نحلة تطن في اذني لا تنقطع حتى اكتب ما يجيش في صدري ، فاذا استولى موضوع المقالة على ذهني فهو تفكيري اذا اكلت او شربت ، وحلمي اذا نمت ، وعمل لا وعيي الباطن اذا شُغلت . ولهذا انقلبت هذه الظاهرة الى عادة ، ومن عادة الى كيف متسلطن كما يشعر مدمن الدخان او مدمن الخمر .
ولي تجربة في هذا الباب ، وهي اني اذا عمدت الى اعداد بحث علمي كفصل من فصول فجر الاسلام او ضحى الاسلام فانا كل وقت صالح لهذا العمل مالم اكن مريضاً ، اما في المقالات الادبية فلست صالحاً في كل وقت ، بل لابد ان تهيج عواطفي بعض الهياج ، وتهتز نفسي بعض الاهتزاز ،وانسجم مع الموضوع كل الانسجام . فاذا لم تتيسر لي كل هذه الظروف كنت كمن يمتح من بئر او ينحت من صخر . واحياناً ارى القلم يجري في الموضوع حتى لا استطيع ان اقفه ، واحياناً يسير في بطء وعلى مهل حتى لا استطيع ان استعجله ، واحياناً يتعثر فلا اجد بداً من الاعراض عن الكتابة . ومن الصعب تعليل ذلك ، فقد يكون سببه صلاحية المزاج وسوءه. وقد يكون قوة الدواعي وضعفها ، وقد يكون الاستعداد للتجلي وعدمه .
واعتدت منذ اول عهدي بالقلم ان اقصد الى تجويد المعنى اكثر مما اقصد الى تجويد اللفظ ، والى توليد المعاني اكثر من تزويق الالفاظ ، حتى كثيراً ما تختل (ضمائري) فاعيد الضمير على مؤنث مذكراً وعلى مذكر مؤنثاً ، لاني غارق في المعنى غير ملتفت الى الالفاظ ، ولا اتدارك ذلك الا عند التصحيح ، وقد يفوتني ذلك ايضاً . ولتقديري للمعنى اميل الى تبسيطه ، حتى لاسرف احياناً في ايضاحه ، لشغفي بوصوله لاى القاريء بيناً ولو ضحيت في ذلك بشيء من البلاغة .
وقد تعودت من الادب الانجليزي الدخول على الموضوع من غير مقدمة ، وايضاح المعنى من غير تكلف ، والتقريب -ما امكن – بين ما يكتبه الكاتب وما يتكلمه المتكلم ، وعدم التقدير للمقال الاجوف الذي يرن كالطبل ثم لا شيء وراءه . ومن حبي للايضاح افضل اللفظ ولو عامياً على اللفظ ولو فصيحاً اذا وجدت العامي اوضح في الدلالة وادق في التعبير . وافضل الاسلوب السهل ولو لم يكن جزلاً اذا وجدت الاسلوب الرصين يُغمض المعنى او يثير الاحتمالات ، ويدعو الى التاويلات .
ومن اجل هذا تشكك في بعض الادباء : هل يعدونني اديباً او عالماً! ولم اقم لهذا الشك وزناً ، فخير لي ان اصدق مع نفسي ومع غرضي ومع ميلي من ان ازوق اسلوبي واكذب على نفسي ليجمع الناس على ادبي .
وقد اعتدت – عند كتابة مقال – ان ارسم الموضوع اجمالاً لا تفصيلاً ، واذا رسمته ابحث لنفسي ان اغيره وابدله اذا جد جديد ، وكثير من المعاني التفصيلية تاتي وانا اكتب لا وانا افكر قبل ان اكتب.
ثم طُلب الي ان اذيع احاديث في محطة الاذاعة فاذعت ، وكانت احاديثي اشبه ما تكون بمقالاتي من حيث موضوعاتها واسلوبها ، الا اني تعمدت في هذه الاحاديث ان تكون اسهل موضوعاً وابسط تعبيراً ،ونزلت في ذلك الى ان دنوت من العامية لتناسب جمهور السامعين ، ولم ار في ذلك باساً بل لقد هممت احياناً ان اتحدث بالعامية لاني ارحم الاميين واشباههم الا يكون لهم غذاء عقلي يستمتعون به . واكره من الادباء ارستقراطيتهم ، فلا يكتبون الا للخاصة ولا يتفننون الا لهم . وواجب الادباء ان يوصلوا غذائهم الى كل عقل ، ونتاجهم الفني الى كل اذن ، فاذا لم يفعلوا فقد قصروا . وقد لفت نظري لهذا مرة ان حضر الى مصر رجل كبير من مسلمي الصين ، فتقابلنا مراراً وتحدثنا كثيراً ، وفي مرة عرفته بالاستاذ توفيق الحكيم ، وقلت له انه اديب كبير ، فسالني : هل هو اديب شعبي او اديب ارستقراطي ؟ فرن السوال في رأٍسي ، فلما قلت له هو اديب ارستقراطي ، سألني : فمن من ادبائكم شعبي؟ فحرت جواباً ،وآلم نفسي الا يكون لجمهور الشعب اديب ، وكثيراً ما شغلت ذهني مشكلة العلاقة بين اللغة الفصحة واللغة العامية وان صعوبة اللغة الفصحى – ولا سيما من ناحية الاعراب – تحول دون انتشارها في جمهور الشعب وخاصة اذا اردنا مكافحة الامية وتعميم التعليم ، فنحن لو اردنا تعميم التعليم بين الجماهير باللغة الفصحى المعربة احتجنا الى زمن طويل ، ولم نتمكن من اجادة ذلك كما لم نتمكن الى اليوم من اجادة تعليم المثقفين اياها . فطلبة المدارس يقضون تسع سنين في التعليم الابتدائي والثانوي واربع سنين في الجامعة ثم لا يحسن اكثرهم الكتابة والقراءة ، وكثيراً ما يلحنون في الاعراب. ومن اجل هذا اقترحت في بعض مقالات نشرتها وفي محاضرة في المجمع اللغوي ان نبحث عن وسيلة للتقريب ، واقترحت ان تكون لنا لغة شعبية ننقيها من حوافيش الكلمات (على حد تعبير ابن خلدون) ونلتزم في اواخر الكلمات الوقف من غير اعراب ، وتكون هي لغة التعليم ولغة المخاطبات ولغة الكتابة للجمهور ، ولا تكون اللغة الفصحى المعربة الا لغة المقفين ثقافة عالية من طلبة الجامعة واشباههم ، والا الذين يريدون ان يطلعوا على الادب القديم ويستفيدوا منعه ، وبهذا تكسب اللغة العامية والفصحى معاً ، فاللغة الفصحى الان لا تتغذى كثيرا من استعمال الكلمات اليومي ، وهذا الاستعمال اليومي في الشارع وفي البيوت وفي المعاملات من طبيعته ان يكسب اللغة حياة اكثر من حياتها بين الدفاتر ، وفي الاوساط الخاصة ، ويكسب اللغة العامية رقياً يقرب من الفصحى ، وهو يمكننا من نشر الثقافة والتعليم لجمهور الناس في سرعة ، ويمكننا من تقديم غذاء ادبي لقوم لا يزالون محرومين منه الى اليوم ، وهو اجرام كبير كاجرام حبس البريء وتجويع الفقير ، ولكن هذا الاقتراح لقي معارضة شديدة بل وتجريحاً عنيفاً .
[1] منهم الاستاذ احمد زكي والدكتور احمد عبد السلام الكرداني والاستاذ محمد عبد الواحد خلاف والاستاذ محمد كامل سليم والاستاذ محمد فريد ابو حديد والاستاذ محمد احمد الغمراوي.
[1] مصدر هذه المختارات هو كتاب حياتي من مجموعة " موسوعة احمد امين
الادبية" الذي قدم له الدكتور عبد العزيز العتيق . (بيروت: دار الكتاب العربي،
1969).
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
اذهب إلى: تصفح, ابحث
ولد أحمد أمين سنة 1886 بالقاهرة من اسرة محافظة تتمتع بقدر كبير من العلم والمعرفة.
التحق بالمدرسة الابتدائية ثم الازهر،ثم بمدرسةالقضاء الشرعي التي تخرج منها ،ثم عين مدرسا،استاذا بكلية الاداب بالجامعة المصرية ،ثم عمدا لها .كما عين بعد ذلك مستشارا للثقافة فمستشارا لوزارة التربية والتعليم .وفي سنة 1946 عين مديرا للادارة الثقافية بجامعة الدول العربية . توفي سنة 1954.
نشأته
ولد أحمد أمين في الأول من شهر أكتوبر لعام 1886م، أي بعد الاحتلال البيرطاني لمصر بأربع سنوات وهي فترة مضظربة أشد الاضطراب في التاريخ المصري الحديث واستمر أثرها طويلاً في الأحداث التالية لهذا الاحتلال. والده: والده هو الشيخ إبراهيم الطباخ وفيما بعد فقد ضاعت نسبته إلى الطباخ واشتهر باسمه الأول وهو أحمد أمين فقط وهو في الأصل من بلدة سخراط من أعمال البحرية وينتمي لأسرة من الفلاحين المصريين إلا أن مظالم السخرة وظلم تحصيل الضرائب أخرجه هو وأخوه الأكبر من بلدتهما تاركين أطيانها حلاً مباحاً لمن يستولي عليها ويدفع ضرائبها، وقد سكن الأخوان في بيت صغير في حارة متواضعة في حي المنشية بقسم الخليفة في القاهرة وهو أكثر أحياء القاهرة عدداً وأقلها مالاً وأسوأها حالاً، وسرعان ماصار الأخ الأكبر صانعاً كسوباً ووجه أخاه الأصغر أبو أحمد أمين إلى التعليم في الأزهر حيث تقدم في دراسته الأزهرية وعمل مصححاً بالمطبعة الأميرية ببولاق أحياناً ومدرساً في مدرسة حكومية وإمام مسجد، وكان يحب نسخ وجمع الكتب المختلفة من تفسير وفقه وحديث وكتب اللغة والأدب والتاريخ مما كان له أثر كبير في بذور الثقافة الأولى التي تلقاها أحمد أمين وتركت في نفسه أثراً مفعماً وعميقاً. بيته وحارته: كان بيت أحمد أمين هو أول مدرسة تعلم فيها دروس الحياة وكان طابع البيت البساطة والنظافة، وكان البيت محكوماً بالسلطة الأبوية المطلقة وكان اهتمام الأب بتعليم أبنائه فائقاً تشم رائحة الدين في البيت ساطعة زكية، ويربي الأب أبناءه تربية دينية ملتزمة منتظمة فيوقظهم لصلاة الفجر ويراقبهم في أوقات الصلوات الأخرى ويسائلهم متى صلوا وأين صلوا ويصوم رمضان ويزكي ويحج البيت الحرام، وعن هذه المرحلة يتحدث أمين بقوله: «وبعد فما أكثر ما فعل الزمان لقد عشت حتى رأيت سلطة الآباء تنهار وتحل محلها سلطة الأمهات والأبناء والبنات واصبح البيت برلماناً صغيراً ولكنه برلمان غير منظم ولا عادل فلا تؤخذ فيه الأصوات ولا يتحكم فيه الأغلبية ولكن يتبادل فيه الاستبداد فأحياناً تستبد فيه الأم وأحياناً البنت أو الابن قلما يستبد الأب وكانت ميزانية البيت في يد صراف واحد فصارت في أيدي صرافين وتلاعبت بها الأيدي وكثرت مطالب الحياة وتفرعت ولم تجد واحداً يعدل بينها ويوازن بين قيمتها فتصادمت وتخاصمت وكانت ضحيتها سعادة البيت وهدوؤه وطمأنينته. وكانت الحارة التي نشأ فيها هي مدرسته الثانية وينتقل بنا الأستاذ أحمد أمين إلى عرض نابض بالحياة للحارة التي قضى طفولته ومراهقته فيها حيث كانت الحارة تمثل الحياة القاهرية المصرية في صميم واقعها قبل أن تغزوها المدنية المعاصرة حيث تمثل في تركيبتها السكانية الواقع الطبقي للمجتمع المصري آنذاك، وما يصاحب هذا الواقع من أخلاق وسلوكيات وأنماط معيشية واقتصادية وترفيهية.في الكُتاب: يذهب أحمد أمين في طفولته المبكرة إلى الكُتاب لتعلم القراءة والكتابة ويحفظ القرآن، ولا يخفى على القارئ المرارة في حديث الأستاذ عن هذه الكتاتيب حيث كانت تقوم في أماكن كئيبة ومظلمة وتمارس في التعليم أساليب عقيمة من ضرب وتعليق وزجر ونهر تميت الروح والجسد وتؤدي في النهاية إلى كره الطفل للعلم والتعليم وتنفيره منه بل الخروج من الكُتاب إلى غير رجعة ثم ينتهي من ذلك كله إلى مقارنة بين تعليم الأطفال في سن طفولته والتعليم الحديث في رياض الأطفال حالياً والفرق الشاسع والبون العظيم بين العمليتين والتربويتين على أنه يخشى أن يكون هناك إفراط في الخشونة في أيامه وإفراط في التنعيم على أيام أبنائه.
دراسته
في المدرسة والأزهر: خرج أحمد أمين من الكتاتيب الكريهة كما دعاها ذات الأساليب العقيمة إلى المدرسة الابتدائية حيث دخل مدرسة «أم عباس» أو كما تدعى رسمياً« والدة عباس باشا الأول» وكانت مدرسته نموذجية بنيت على أحدث طراز وأجمله، حيث ارتدى أحمد أمين بدلة حديثة بدلاً من الجلبات وطربوشاً عن الطاقية وأحس علو القدر ورفعة منزلته عمن كان يختلط بهم من تلاميذ الكتاب وأبناء الحارة، وكان التعليم في المدرسة يتم وفقاً لأحدث الأساليب التربوية آنذاك حيث تعلم فيها الجغرافيا والتاريخ والحساب واللغة الفرنسية، على أنه صرف عن التركيز على دروسه المدرسية بما أعده له أبوه من برنامج غريب ومتناقض محتواه العلوم التقليدية من نحو وصرف وبلاغة… الخ، مبعثه حيرة الوالد في مستقبل ابنه هل يوجهه إلى التعليم الديني في الأزهر أم التعليم المدني من ابتدائي إلى الثانوي ثم إلى الجامعة وهو برنامج مرهق صعب التحمل لتناقضه وإرهاقه النفس والبدن وعدم القدرة على الجمع بينها، وعلى كل حال يمضي أحمد أمين أربع سنوات حافلة في هذه المدرسة ثم يستخير الوالد الله سبحانه ويخرجه من المدرسة إلى الأزهر.وهاهو ذا أحمد أمين في الرابعة عشر من عمره يلبس القباء والجبة والعمة والمركوب بدل البدلة والطربوش والجزمة ويكون منظراً غريباً على من كان يراه سابقاً بملابسه الحديثه مما سبب له ضيقاً وخجلاً وإحراجاً ويحس بالعمامة تقيده وتمنعه من المرح واللعب والجري وبأنه شاخ قبل الأوان والطفل إذا تشايخ كالشيخ إذا تصابى كلا المنظرين ثقيل بغيض كمن يضحك في مأتم أو يبكي في عرس. ويصل إلى الأزهر استعداداً للدرس وطلب العلم حيث يرى حلقات الطلاب مستديرة أمام كل شيخ والشيخ يقرأ ويفسر ويقرر والطلاب منصتون أو يجادلون الشيخ فيما لا يفهمون، ويخرج إلى صحن الأهر فيراه سماوياً غير مسقوف ومبلطاً غير مفروش والخبز منشور على الملاءات ليجف، ويعقد أحمد أمين مقارنة حزينة في ذات نفسه بين مدرسته القديمة والأزهر الجديد عليه، ثم يصف نظام التعليم بالأزهر آنذاك وكان نظاماً حراً لا يعني بالطالب فيه وشأنه فإذا لم يرزق بمرشد يرشده غرق في هذا البحر الذي لا ساحل له إذ لا حضور ولا غياب ولا امتحانات ولا يسأل أحد الطالب ماذا صنع وكان توقيت الدروس بمواقيت الصلوات.وفي الأزهر يتعرف على شخصية المصلح الشيخ محمد عبده رحمه الله ويتأثر بآرائه الإصلاحية ولو أنه حضر دروسه لمدة قصيرة. في طنطا والإسكندرية: لم يمكث احمد أمين في الأزهر سوى سنوات معدودة أحس بعدها بظلام المستقبل وطول الطريق بغير جدوى، وهاهو يحاول أن يعثر على وظيفة مدرس بطنطا فيتقدم إليها ويسافر إلى طنطا باكياً شاكياً من فراق بيته وأهله ويتعثر الفتى في طنطا وتظطرب أموره وتفكيره فيستقيل ويعود إلى القاهرة بعد شهر ويسجل احمد أمين عجبه من مقارنة حاله وابنائه في سنه تلك حيث يسافرون ويعودون فرحين مغتبطين غير عابئين بشيء فيعجب لسرعة تطور الجيل في الزمن القصير.وبعد سنتين من سفره إلى طنطا يعثر على وظيفة مدرس في الإسكندرية بمدرسة«راتب باشا» وقد كانت هذه الخطوة نقطة تحول في حياته إذ التقى في الإسكندرية بمعلمه الثاني بعد أبيه الشيخ عبدالحكيم بن محمد وكان شيخاً مدرساً فاضلاً ذا بصر وخبرة بالدين والدنيا وأهلها ومن ثم استفاد من شيخه فوائد جمة وأخرجته صحبته له من عادات وأفكار كثيرة، وتعلم الدنيا التي ليست في الكتب وبالجملة فقد كانت فائدته من أستاذه كبيرة في مستقبل حياته. في مدرسة القضاء الشرعي: في عام 1907م تقرر افتتاح مدرسة القضاء الشرعي بعد اقتراح ذلك من قبل المصلح الشيخ محمد عبده رحمه الله لتخريج قضاة شرعيين مؤهلين تأهيلاً علمياً حقيقياً وصالحين للغاية من إعدادهم وتقدم أحمد أمين إلى المدرسة وتم قبوله بعد لأي لقصر نظره، ويدرس العلوم الإسلامية والفقهية والبلاغة والأدب والتاريخ إلى جانب العلوم الحديثة كالجغرافيا والعلوم والحساب والهندسة ويقضي فيها أربع سنوات في القسم العالي وينجح بتفوق بعد امتحان عسير لا رحمة فيه ويعين معيداً في مدرسة القضاء بعد تخرجه فيها بعد أن عين قاضياً في الواحات لمدة قصيرة حلاً لمشكلته المزمنة مع قصر النظر، ولعل أهم ما استفاد في مدرسة القضاء هو تعرفه وتأثره بشخصية مشهورة من شخصيات عصره هو عاطف بك بركات ناظر مدرسة القضاء، فقد وجد فيه الأبوة الروحية الحقيقية نظراً لما اشتهربه عاطف بك من حزم وبصيرة ورؤية نافذة هذا مع التزام الحق والعدل حتى في أمس الظروف وأحلكها، خاصة أن أحمد أمين قد عين معيداً في مادة الأخلاق التي كان يدرسها عاطف بك وبذلك توثقت العلاقة أكثر بين الأستاذ وتلميذه وخلال هذه المرحلة أحس بحاجته الشديدة إلى تعلم لغة أجنبية تكون معيناً له على استكمال ثقافته وانفتاحه الحضاري وبناء شخصيته العلمية ولينظر إلى الدنيا بعينين لا بعين واحدة. يتعلم اللغة الإنجليزية: ابتدأ أحمد أمين تعلم الإنجليزية وهو شاب في السابعة والعشرين بعد أن جرب حظه في تعلم الفرنسية فأخفق، وابتدأ بالكتب الدراسية في مدرسة برلتز ثم انتهى به المطاف إلى سيدة إنجليزية في الخامسة والخمسين من عمرها تدعى «مس بور» قضى معها بضع سنوات ووجهت إليه كامل عنايتها من الناحية التعليمية ومن الناحية التربوية حيث عنيت بتدريب ذوقه وإحساسه بالجمال والطبيعة من حوله وكانت تردد عليه دائماً« تذكر انك شاب» إلا أن هذه السيدة الفاضلة قد أصيبت بمرض عقلي رحلت على أثره إلى بلادها وانقطعت علاقته بها منذ ذلك الحين وقد وفق بعد ذلك في معرفة سيدة إنجليزية شابة وزوجها فكان يعلمها العربية وتعلمه الإنجليزية وتغذي أحاسيسه برقتها وصفائها وطهارتها، واجتاز هذه المرحلة فصار وكما قال بعد أن كان ينظر بعين صار ينظر بعينين، واستفاد من ذلك بسعة الأفق والسياحة الحضارية في الثقافة العالمية وانعكس ذلك وكان أثر ذلك واضحاً جلياً في أسلوبه المباشر المشرق البسيط.
رحلتهالأدبية
المدارس الفكرية وبدايات النشر: ثم يستطرد الأستاذ أحمد أمين في تجاربه الحياتية حيث يجمعه القدر ببعض الخريجين من جامعات فرنسا وجامعات بريطانيا حيث يستفيد من تجاربهم وخبراتهم ويشاركهم في أحاديثهم وأفكارهم فتكون مائدة من طعوم مختلفة ويتم الاتفاق بينهم على تأليف لجان متعددة تعنى بشؤون مصر المختلفة تبحث أوضاعها فلجنة للناحية السياسية ولجنة للنواحي التعليمية وهكذا… وعصفت الأحداث بهذه اللجان الواحدة تلو الأخرى ولم يثبت منها سوى لجنة التأليف والترجمة والنشر والتي كانت مناراً مضيئاً في سماء الثقافة والعلم لا في مصر وحدها بل الشرق العربي كله. زواجه وأسرته: ثم يتحدث بعد ذلك عن الزواج وتجربته الحياتية والوجدانية مع هذا الحدث الهام في حياة كل إنسان واصفاً كيف كان الزواج في بيئته وطبقته في ذلك الزمان وما لقيه من العنت والمشقة حتى وفق أخيراً إلى الزوجة التي ارتضاها ورضته وكيف وقفت عمته وزيه الديني عائقاً في سبيل زواجه نظراً لقصور نظر الكثرين وتركيزهم على المظهر دون المخبر.وحياته الزوجية بصورتها الإجمالية اليومية ورأيه في كثرة النسل وقلته وما يؤدي إليه ذلك من رقي الأمم وتأخرها وكيف تغلب رأي الزوجة ومعارفها على رأيه من ناحية كثرة الأولاد، وكذلك بعض المشاكل الأسرية كمشاكل الخدم وما لقي منها وكيفية التعامل مع السيدات وأن العقل والمنطق الخاص هو آخر ما يتم التفاهم به معهن وذلك لغلبة العاطفة والشعور والإحساس على تكوين المرأة.ويقوم بتربية أولاده ويعني بالولد الأول لظنه بأنه سوف يكون قدوة لبقية أخوته وكيف كان قاسياً في تربيته لأولاده الأولين ثم كيف تغيرت معاملته لهم بالزمن وأنه لم يجد فرقاً يذكر بين أولهم وآخرهم. أحمد أمين والحركة الوطنية: شارك أحمد أمين كمعظم أبناء جيله في الأحداث السياسية التي عصفت بمصر بعد الحرب العالمية الأولى إبان مراحل الكفاح الوطني ضد الاحتلال الإنجليزية كما شارك بفعالية وحماسة في هذه الحركة الوطنية وعن طريقها تعرف إلى معظم القياديين الوطنيين إبان تلك المرحلة من تاريخ مصر. كسعد باشا زغلول وعاطف بك بركات وغيرهم ولا تمر تلك المرحلة من حياته بسلام فها هو ينقل من مدرسة القضاء بعد أن كان أستاذاً بها إلى القضاء قاضياً شرعياً بمحكمة قويسنا الشرعية ومع ذلك فلم يستمرئ القضاء ولم يسعد به فكل ماكان يمر به ويراه أرحام تقطع وأسر قد خرجت وقد استفاد من عمله في القضاء الدراسة الاجتماعية ومشاكلها، وكان لا يعول في أحكامه القضائية على مرافعات المحامين وتزويقهم وإنما يعمد إلى حل المشاكل الأسرية من أطرافها مباشرة ومن ثم معالجتها بالنصح والتوفيق والصلح أو بالفراق إذا لم يكن جدوى من الصلح.ثم يعلق على منصب القضاء الشرعي بما يحلو له من ملاحظات واستنتاجات عقلية واجتماعية استوعبها عقله الذكي الحساس أثناء فترة عمله قاضياً لأربع سنوات متتالية. أحمد أمين والحياة الأكاديمية: توفي والد الأديب أحمد أمين وهو قاضٍ شرعي ومن بعده أستاذه الروحي عاطف بك بركات وبنفوذ صديقه «طه حسين» عميد الأدب العربي يعين الأستاذ أحمد أمين أستاذاً بكلية الآداب بالجامعة المصرية ويدخل بذلك إلى العالم الأكاديمي وهو عالم غريب عليه كل الغرابة إذ بدأ حياته العلمية أزهرياً ومن ثم أتم دراسته في دار القضاء وعمل في التدريس فيها قاضياً وهاهو ذا يحتل مكانه كأستاذ في كلية الآداب بين أساتذتها المصريين والإنجليز والفرنسيين والبلجيك وينتظم في سلكهم ويلاحظ اضطراب الجو الدراسي وكون النسيج الجامعي مهلهلاً في كلية الآداب وهو يستفيد من تجاربه الأكاديمية من حيث الكيف والكلم ويلاحظ أجواء الصراع في الكلية وتداخل السياسة والعلم. ثم تحدث أعجوبة في حياته على حد تعبيره إذ يعين عميداً لكلية الآداب ويغرق حتى لجة رأسه في الأعمال الإدارية الروتينية فحتى شراء مكنسة يعرض عليه ويظل عميداً للكلية لمدة سنتين ثم يحدث مايسبب استقالته من العمادة فيستقيل ويعود إلى عمله العلمي بين الكتب والبحث العلمي.وإذ ذاك تسفر له الحياة عن وجه قبيح من وجوهها المتعددة من إنكار للجميل والطعن في الظهر والتنكر لرابطة الأستاذية التي يراها رحمه الله من منظوره الخاص أقوى الروابط وأجلها بين الناس، وكان ذلك درساً من دروس الحياة لا ينسى. وأثناء عمله بكلية الآداب يقوم برحلات متعددة إلى العراق والشام ويمر بتلك الديار وهي في طور النهضة العربية الحديثة والانعتاق من ربقة المستعمر البغيض ويسجل انطباعاً ومشاهداته عن تلك الأقطار ولا ينسى أن يسجل آلامه لتخلف بلاد العرب وعدم استغلالها لثرواتها قدراتها نحو النهضة وما تعانيه من أدواء وأمراض في الاقتصاد والأخلاق والمجتمع والساسة ويسجل ما يراه من اقتراحات علمية وواقعية لتطوير بلاد العرب والنهوض بها نحو الرقي والأخذ بأسباب الحضارة. ويزور أوربا بعد ذلك ضمن وفد مصر إلى مؤتمر فلسطين باقتراح من صديقه الأستاذ العلامة أحمد لطفي باشا السيد وزير الخارجية المصرية آنذاك، ويسافر ويركب الطائرة لاول مرة في حياته فيصف انطباعه ومشاعره آنذاك ويصل إلى لندن وتبدأ المفاوضات ويتقدم فيجد نفسه على المائدة أمام مستر بيقن وزير خارجية بريطانيا ومعه وزير المستعمرات البريطاني وتنتهي المفاوضات من دون نتيجة تذكر، وتكون فرصة للأديب والعالم أحمد أمين ليزور بريطانيا ويتعرف على جوانب الحياة فيها والنواحي السلبية والإيجابية لهذه البلاد ولا ينسى أن يسجل إعجابه بالتنظيم الدقيق لحياة الإنجليز والروح الديمقراطية التي يتميز بها هذا الشعب الحضاري، وتلك الحياة الهادئة المنظمة المريحة التي يحيونها ولا يفوته أن يسجل تعجبه واشمئزازه من هذا التباين الصارخ بين حياة الإنجليز في بلادهم وسياستهم في المستعمرات .
من اثاره
* فجر الاسلام
* ضحى الاسلام
* ظهر الاسلام
* قصة الادب في العالم
* فيض الخاطر
* حياتي
* إلى ولدي
معهد الامارات التعليمي
www.uae.ii5ii.com
مصدر هذه المختارات هو كتاب حياتي من مجموعة " موسوعة احمد امين
الادبية" الذي قدم له الدكتور عبد العزيز العتيق . (بيروت: دار الكتاب العربي،
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%…85%D9%8A%D9%86
https://www.koolpages.com/almalaika/amen.html
{{{ تم تعديل عنوان الموضوع
اخوك^_^
ابي تقرير عن (اسلوب القسم)